لا أعرف إن كانت غواية السلطة، مرتبطة بآلة القمع. هل تثير المناصب في أوروبا حالة نشوة أو جنون كما هو الحال غالباً في منطقتنا.. غواية السلطة والتسلط والتحكم والحاجة إلى التنفيس؟ غواية الانتقام من الماضي، مما تعرّض له صاحب المنصب من ذلّ واحتقار قبل أن يتولّى منصبه. سلسلة محكمة وغزيرة من الذلّ وتوريثه وممارسته لتطويع الآخر عندما نكون نحن أيضاً مطوّعين ومذلولين عن طيب خاطر أو غصباً.
انطلاقاً من تلك الغواية المريرة، انتشرت في سوريا كما في بقية أنحاء العالم، موضة الملابس المموّهة المخصّصة للجيوش. إلا أن الموضة تلك تختلف أسبابها بين بلد وآخر. ففي حين يرمز أي جيش في بلد متحضّر إلى القوة والعدالة وحق الدفاع عن النفس والكرامة والضمير وحقوق الإنسان وحماية المصالح الوطنية العليا، ترمز جيوشنا إلى الولاء المطلق للحاكم لا للوطن، إلى البطش والعنف وشرعنة ما هو غير شرعي، واحتقار حقوق الإنسان والكسل والتراخي.
في سوريا، اجتاحت ملابس الجيش شوارع دمشق والمدن الكبرى الأخرى أواخر التسعينات. القمصان المموهة بتدرّجات الأخضر، والأحذية العسكرية السوداء والثقيلة التي تتعب الأقدام في المشي، باتت دليل تحضّر ومواكبة لصرعة العصر للرجال كما للنساء. وتلك الموضة، في سوريا تحديداً، تبطن معاني كثيرة وتخرج من أماكن معقدة للغاية. فهي من جهة، تعطي لمن يرتديها سلطة كاذبة وواهية ومخادعة، لا يملكها في الحقيقة. حتى أنه لا يملك جزءاً صغيراً منها. سلطة "المواطن" في نيل حقوقه والدفاع عنها. سلطته في حرية التعبير والاعتراض والمبادرة. سلطته في عدم السكوت عن الممارسات العنيفة التي عاشها لعقود ويعيشها أبناؤه وأحفاده.
ومن جهة أخرى، ربما تخفّف تلك الملابس من وطأة الإحساس بالخوف من هذا الآخر المنتمي إلى العسكر، الممنوح كل الصلاحيات من الإزعاج إلى التحرّش إلى السرقة إلى الاغتصاب وأحياناً إلى استخدام سلاحه إما للضرب أو للقتل. وفي جانب آخر، تشبع الموضة تلك، خيال الفتيات عن "جيشهم". وهو في معظمه خيال غير واقعي عن جيش "مغوار" وجذّاب وصاحب قيم وصاحب سلطة عادلة وقضية وشرف وعزيمة وغيرها من الصفات المرتبطة بهذا الكائن. وأيضاً تساهم تلك الملابس بردم الانفصام الذي يعيشه جيل "الطلائع" (هم الشبيبة في حكم البعث) عند تلقينه دروس التاريخ والجغرافيا والقومية العربية الاشتراكية والتربية العسكرية. جيل يقرأ عن بطولات الجيش وأعياد التحرير والانتصارات، ويعرف أن جزءا من أرضه لا يزال محتلاً من دون أن يكلّف أحد نفسه عناء شرح الأسباب. ولم يكن مسموحاً طرح أسئلة عن الأسباب القاهرة التي تبقي أرضنا محتلة من العدو الذي نرفض مصافحته ونخاف منه ومن ظلّه، وفي الوقت ذاته، لا نخوض المعارك ضدّه، حتى ولا نرسل له رصاصة تؤرق راحته.
قبل أيام، نشرت شركة "H&M" السويدية اعتذاراً بعد الضجة التي أثيرت حول اللباس الذي صمّمته حديثاً ويتطابق مع اللباس العسكري للمقاتلات الكرديات في "وحدات حماية الشعب" الكردية (التابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي) واللواتي يقاتلن حالياً ضد "داعش". نشطاء كورد انتقدوا بشدة التصميم "المواكب لموضة خريف شتاء 2014/2015"، معتبرين أنه نوع من استغلال قضيتهم والركوب على ظهرها، وطالبوا شركة الملابس السويدية بتخصيص عائدات ذلك التصميم لدعم المقاتلات ضد "داعش". بعض وسائل الإعلام الأوروبية قالت إن الشركة السويدية "أصيبت بالذعر" بعد ردود الفعل الغاضبة. بالضبط كما حدث قبل أسابيع قليلة مع شركة "آن سامرز" البريطانية التي أطلقت على مجموعة من ألبستها الداخلية النسائية اسم "ISIS"، فأثارت ضجة كبيرة فسارعت بالردّ على المحتجين بأن المقصود ليس اختصار لتنظيم "داعش" بل "إيزيس"، وهي آلهة القمر والأمومة عند المصريين. إلا أن بعض المحتجين رأى أن اللباس المثير أقرب إلى استفزاز "داعش" والسخرية منه إلى التعبير عن الأمومة. الأمر ذاته، دفع الكثير من الرجال المواكبين للموضة، إلى حلق ذقونهم وشعرهم خوفاً من تصنيفهم "إرهابيين" بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر.
لا نعرف إن كانت تلك الشركات صادقة في ادّعائها أن الأمر ليس سوى صدفة أو سوء فهم، إلا أن تلك الابتكارات المتماشية مع "موضة" العنف والقتل والدم التي تجتاح سوريا، قد تعني في أحد وجوهها، هرباً من الخوف الذي تثيره "داعش" في الروح، والهلع الذي ترميه حول الرقبة وفي الرأس. وأيضاً سخرية من اللباس العسكري بمعناه العنيف والقمعي. لكننا حتى هذه اللحظة، لا نعرف لماذا لم يكن عنف النظام السوري وممارساته غير المسبوقة بحق شعب أعزل، وحياً لبعض الشركات؟ لماذا "داعش"؟ ولماذا مَن يقاتل ضدّها؟ لماذا الكيماوي والصورايخ والبراميل والطائرات والمجازر، أقلّ وطأة من السكين؟
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها