ماذا يحدث في سوريا؟ ثورة أم حرب أم مجزرة جماعية؟ البعض يتحدث عن ثورة، والبعض عن حرب أهلية، وآخرون عن حرب طائفية، وثمة من يقول إن سوريا هي بلد الموت.. والخوف. إلا أن تلك المفردات تأتي في سياق مجرّد. وكأن تلك الثورة أو الحرب أو المجزرة، أو أياً كان اسمها، تدور في مكان مجرّد وغير ملموس. كأن السوريين الأفراد خرجوا كلهم ولم يبق سوى طياري النظام يقصفون مدناً مهجورة، و"داعش" تذبح صحافيين أجانب، وبقايا "جيش حر" من هنا و"جبهة نصرة" من هناك. لم يعد ثمة وجود للكائن السوري المدمّر، معارضاً كان أم موالياً. مهما تعدّدت تسميات ما يحدث في سوريا، إلا أن الكائن السوري هو الخاسر الوحيد، والمجتمع السوري يدفع وحده ثمن ما يجري من دمار مادي ونفسي وجروح عصية على الالتئام وخراب في العلاقات والروابط وكثير كثير من الكآبة والوحشة.
هذا ما يريد قوله الممثل والمخرج السوري أسامة حلال في عرضه "فوق الصفر".
في مسرحية "فوق الصفر"، المنصة مِلك للسوريين. كل ما يدور فوقها، يتلمّس طريقه بذكاء لإعلاء شأن الكائن السوري المغيّب والمهمّش، الآن بعد الثورة كما كان قبلها. إنها مسرحية السوريين كلهم، لا بل مسرحية سوريي الداخل، من بقي منهم في السجن أو من شقّ طريقه في رحلة نزوح داخلي. إنها مسرحية الجسد السوري أيضاً، وما تحمّله خلال أكثر من سنوات ثلاث من جروح وجرب وكدمات وقشعريرة خوف وشحوب. أجساد الراقصين، متراكمة فوق بعضها البعض، طوال العرض تقريباً. متراكمة أو متلاصقة، في ما يشبه وحدة الحال والمعاناة. كتلة أجساد تتحرك إلى يمين المنصة وإلى يسارها، تصعد سريراً واحداً وتعثر في ضيقه على مساحة كافية لتتمدّد أو تجلس أو تأكل أو تسمع صوت الطائرات.
الكتلة ذاتها تتعرّض للتعذيب في مشهد موجع مركّب بحنكة وحساسية. يتخلّى العازفون ومغنّو الراب الشهيرين (مازن السيد "الراس"، هاني السواح "السيد درويش"، شادي علي)، عن أماكنهم في الظلام على يمين المنصة، ليلعبوا بالكرة. يطجّونها ويتحايلون عليها بأقدامهم وأيديهم وخصورهم. ثم يستعينون بواحدة من كتلة الأحساد تلك، ليلعبون الكرة به. يطجّون رأسه على الأرض ويختبرون مهاراتهم في المناورة بجسده ثم يكرجونه على الأرض، كأنه مجرّد كرة!
الموسيقى والغناء يرافقان العرض، وكتلة الأجساد ترافقهما في إيقاع محكم من الرقص والتعبير. تفيض تلك الأجساد على المنصة. جسد يأكله الجَرَب بعد فترة من الاعتقال، جسد جريح من قصف أو تعذيب، جسد يحمل روحه الخائفة بكثير من الحنان، جسد تدمّره هواجسه. إنهم السوريون. يشهدون موت بعضهم البعض، يلمحون عذابات بعضهم البعض، يتبادلون المخاوف ويشردون في من رحل منهم ومن بقي.
أسامة حلال كعادته، يحمّل عرضه رأياً وموقفاً، من دون أن يتشبّث بهما. يترك شبابيك الحوار مفتوحة ليصل العرض إلى الجمهور بطرق مختلفة. ذلك الأسلوب الإخراجي يجعل المتفرّج شريكاً في العرض وفي الإخراج. كل متفرّج يحمّل العرض الأبعاد التي يؤمن بها. البعض يرى في كتلة الأجساد تلك سجناً، والبعض يرى فيها غرفة ضيقة في مأوى نزوح، والبعض يراها مخيم لجوء، أو بيتاً عادياً يقطنه كل هذا العدد من الأفراد. لكن أحداً لا يختلف على هوية كتلة الأجساد تلك.
ثمانون دقيقة، كانت كافية للحديث عن كل ما يخطر في بال السوريين. الطائرات والصواريخ والبراميل والكيماوي والاعتقال والتعذيب والخوف و"داعش". كل المدن السورية كانت حاضرة وكل التجارب التي عاشها السوريون خلال السنوات الماضية، قدّمها أسامة بلا تعال أو تنظير. وجهة نظره حاضرة وقوية وواضحة، لكن بلا ذرة عناد أو استحواذ أو ادّعاء. والممثلون الراقصون، كانوا بارعين في تقمّص الجرعة اللازمة من الوجع والخوف والقلق، ربما لأنهم سوريون ومعنيون. إلا أن براعتهم منعتهم في الوقت ذاته من أن يكونوا طرفاً. كانوا إنساناً سورياً لا نعرف انتماءاته ولا مواقفه ولا طائفته، لكننا نعرف جيداً، أنه حرّ.
عرض متكامل من إخراج إلى تمثيل وموسيقى وغناء وسينوغرافيا وإضاءة وملابس، لا ينقصه ربما سوى بعض الواقعية في إحدى مقولاته. إذ يتوهم العرض أن الحل بيد السوريين أنفسهم. يحمّلهم، ربما، فوق طاقتهم على التحمّل. وفي ذلك التحميل تلتمع نظرة شعرية لما يحدث. صحيح أن الحب يهزم كل الصعاب، إلا أن حب السوريين بعضهم لبعض، يصعب عليه هزيمة طائرات وصواريخ وبراميل وسكاكين. لم يعد الحب بعد كل هذا الدمار والخراب سوى وسيلة لتحمّل القهر والوجع، وسيلة لعدم الانتحار. إلا أن شخصيات العرض، تنتحر واحدة بعد الأخرى. كومة الأجساد تلك تنفصل بعضها عن بعض، وتنتحر، إلا واحدة، تبقى معلقة فوق ذلك البناء المعمّر من الأسرّة، تنظر إلى المنتحرين وينتهي العرض. لا نعرف إن انتحرت أم لم تفعل. العرض أراد لنا ألا نعرف ليترك نافذة "أمل" مفتوحة. ليس الأمل حاضراً في سوريا، لكن العرض بما يحمله من طاقات إبداعية وقدرات على التجلّي، يسمح لنا بأن نسرق بعض الأمل بسوريا نحلم بها ونتوق للعودة إليها.
تبدأ عروض "فوق الصفر" الأربعاء 8 تشرين الأول/أكتوبر الجاري على منصة "بابل"-بيروت، وتستمر حتى 12 منه.
بطاقة تعريف:
سينوغرافيا وإخراج : أسامة حلال
كوريغراف: حور ملص
دراماتورج: مضر الحجي
مدير إداري: ريم خطاب
أداء: حور ملص، ميار ألكسان، أويس مخللاتي، عامر برزاوي، همام عفارة، مدحت الدعبل، مروان حموش، أليسار كغدو
تأليف موسيقي: مازن السيد
شعر وغناء: هاني السواح - شادي علي – مازن السيد
فيديو وإخراج DVD: وائل قدلو
فوتوغراف: محمد خياطة
مدير تقني: كرم أبو عياش
تصميم أفيش وبروشور: علي الرافعي
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها