الأحد 2024/09/08

آخر تحديث: 10:15 (بيروت)

هل اسطنبول هي القسطنطينيّة؟

الأحد 2024/09/08
increase حجم الخط decrease
قال، ثمة أسئلة يجب أن نطرحها على ذواتنا حتّى ولو كانت موجعة. هل نحن نعيش في الحاضر أم في الماضي؟ هل نستطيع اليوم أن نعتبر أنّ اسطنبول هي إيّاها القسطنطينيّة؟ طرح السؤال ولم يعطِ جواباً. بعضهم التقط رمزيّة السؤال. وبعضهم اعتبره مجرّد سؤال خطابيّ يختزن جوابه في ذاته: طبعاً لا. اسطنبول اليوم مدينة تركيّة بما لا يقبل الجدل. والمناخ الذي يهيمن عليها هو خليط هجين من العلمنة الأتاتوركيّة والصحوة الإسلاميّة. لكنّها بالتأكيد ليست القسطنطينيّة القديمة، عاصمة مملكة الروم وقلب المسيحيّة البيزنطيّة. 
خلفيّة السؤال الذي طرحه هذا الكاهن الأرثوذكسيّ، الآتي من بلجيكا، هي إشكاليّة الهويّة كما يختبرها المسيحيّون الأرثوذكس اليوم. فهؤلاء واقعون لا في مأزق الحرب بين الأوكران والروس، الذي لم تنتهِ فصوله بعد، فحسب، بل كذلك في معضلة الصراع على الأوّليّة بين بطريرك القسطنطينيّة وبطريرك موسكو. وما بين البوسفور والفولغا، ثمّة أيضاً لعبة التنافس على النفوذ في إفريقيا بين الأرثوذكسيّة اليونانيّة والأرثوذكسيّة الروسيّة بمباركة من سيّد الكرملين ودعمه. إشكاليّات الخلط بين السياسيّ والدينيّ تعصف اليوم بأرثوذكس آسيا وأوروبا الشرقيّة، وتستدعي منهم أن يقوموا بمراجعة نقديّة لتاريخهم ولتداعيات هذا التاريخ على حاضرهم، ولا سيّما على شجون العلاقة بين الزمنيّ والروحيّ، ولموقفهم من قضيّة الحرّيّة الفرديّة التي كانت للغرب ذي الثقافة المسيحيّة اليد الطولى في وضع مداميكها النظريّة. بهذا المعنى، كان هذا الكاهن على حقّ عندما طرح سؤاله. فاستعادة "أمجاد" التاريخ البيزنطيّ لملء حاضر مليء بالثقوب إن هي إلّا آليّة دفاع عن الذات تحمل سمة المرض الجمعيّ. وبهذا المعنى أيضاً، اسطنبول لا يمكنها أن تكون القسطنطينيّة، لأنّ أحداً لا يمتلك الحقّ في إضفاء صفة الإطلاق على جزء (مسيحيّ) من تاريخ هذه المدينة العظيمة وإسقاط الجزء الآخر (الإسلاميّ).

من جهة أخرى، الشعوب ذات الثقافة الأرثوذكسيّة، بمن فيها تلك التي تدين اليوم بالولاء للمسيحيّة الكاثوليكيّة، مدينة، بأثمن ما عندها، للحضارة التي صنعتها بيزنطية، وذلك بقطع النظر عن الموقف الإيمانيّ الصرف. حين قامت الثورة البلشفيّة الملحدة، نفت خيرة المفكّرين المسيحيّين في الديار الروسيّة، ولم تتورّع عن إرسال بعضهم إلى الغولاغ. لكنّها لم تدمّر أيقونة الثالوث التي رسمها الراهب روبلوف إبّان القرن الخامس عشر، بل نقلتها من الكنيسة إلى متحف تريتياكوف في موسكو. طبعاً، هذا كان حفاظاً على معلم فذّ من معالم التراث الروسيّ. لكنّ هذه الأيقونة، التي اعتبرها أحد اللاهوتيّين الروس أبلغ "برهان" على وجود الله، تضرب جذورها في مدرسة بيزنطية التي على مقاعدها تعلّم الروس أن يرسموا أيقوناتهم، هذا المثال يمكن تعميمه على الشعوب الأرثوذكسيّة جميعها من موسكو مروراً بكييف وبوخارست وبلغراد والشام وحلب وصولاً إلى العالم الجديد. فهذه الشعوب تدين للمدى البيزنطيّ، وللقسطنطينيّة تحديداً، بأبهى ما في تراثها الموسيقيّ والشعريّ والفنّيّ. حين غنًت فيروز "يا يسوع الحياة"، كانت ترفع، بصوتها السندسيّ، القبّعة لعاصمة الروم. وحين زيّن نعمة الله المصوّر الحلبيّ في القرن السابع عشر كنائس سوريا ولبنان بما بات يُعرف بأيقونات المدرسة "الحلبيّة"، كان يمزج عبقريّة التصوير البيزنطيّ بالأرابيسك الإسلاميّ صانعاً واحدةً من ذرى التلاقي بين المسيحيّة الشرقيّة والإسلام. حتّى إرث السلطنة العثمانيّة، الذي يعتبره اليوم كثر من الأتراك وغير الأتراك مرجعاً لهم، لا يمكن فهمه من دون الأساس البيزنطيّ الذي قام عليه، لا في القوانين والهيكليّة السياسيّة فحسب، بل في الموسيقى والعمارة والطبّ وسائر فروع المعرفة. يكفي أن تمشي اليوم في شوارع اسطنبول كي ترى كيف صارت الآجيّا صوفيّا، هذا المعلم العمرانيّ البيزنطيّ الفذّ، مثالاً لمئات المساجد الإسلاميّة التي تصنع فرادة هذه المدينة التي لا تنتسب إلى سوى ذاتها. 

من هذه الزاوية، القسطنطينيّة لم تندثر، بل لا تزال حاضرةً في اسطنبول الراهنة مثل حضورها في إرث ملايين البشر الذين حبلت بهم هذه المدينة وولدتهم ثقافيّاً وفكريّاً بينما كانت تلدهم دينيّاً أيضاً. بهذا المعنى، اسطنبول هي القسطنطينيّة، لا بهدف اختزال التاريخ، بل إخلاصاً للديناميّة الحضاريّة والثقافيّة الآتية إلينا من بيزنطية العظيمة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها