الأحد 2024/06/23

آخر تحديث: 10:03 (بيروت)

عاصي الرحبانيّ: إنّ السماء اليوم ناقصة…

الأحد 2024/06/23
عاصي الرحبانيّ: إنّ السماء اليوم ناقصة…
حين كان عاصي بيننا، كان الوحيد القادر على أن يخترع وطناً من كلمات،
increase حجم الخط decrease
«وقالت طفلة: إنّ السماء اليوم ناقصة لأنّ السروة انكسرت» (محمود درويش)
نحن جيل لا يتكرّر، لا لأنّنا كنّا في المدرسة نلعب بالكلل (جمع: كلّة)، ونرصد الشرخ بين الخريف في كتب القراءة، حيث الأشجار تصفرّ وتحمرّ وتفقد أوراقها، والخريف البيروتيّ حيث الأشجار الصنوبريّة القليلة لا تتلوّن ولا تتعرّى، بل لأنّنا تربّينا على أغاني عاصي الرحبانيّ وأشعاره.

كان عاصي الشاعر الوحيد في العالم العربيّ الذي يتنزّه على البرزخ الفاصل بين الشعبيّة والنخبويّة، يتنزّه ويتنزّه، ولا تزلّ قدماه. فتجده يخترع شعراً يحسّه الناس البسطاء أنّه منهم وفيهم، وينتصب أمامه المثقّفون فاغري الفم من فرط الانذهال. 


وكما كان شأن عاصي مع الشعر، كذلك كان شأنه مع الموسيقى، إذ كان قادراً على توسيع رقعة الكون بحفنة من النوطات لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة. وبهذه النوطات الشحيحة كما في «إمّي نامت عبكّير» و«يا محلا ليالي الهوى»، كان يعيد تشكيل ذاكرة الموسيقى العربيّة، ويكتب مستقبلها لمئات من السنين. 

وكان عاصي الوحيد الذي جعل من الشال الأنثويّ استعارةً للطفولة الهاربة حين خطّ بالقلم المروّس كمنقار حجل صنّين «شالك رفرف بالحارة/وعالنسمة شال/هيدا لحلح طيّارة/لأ هيدا شال». ومن القاموس الطفوليّ المنسيّ في دساكر جبل لبنان استعاد عاصي مفردة «لحلح» كي يصنع جدليّة القرب والبعد بين طيّارة الورق والشال المزدحم بالرغبات، ثمّ اختار بعبقريّته الخرافيّة أن يجمع «طيّارة» على «طيايير» (طياييرن زرق وحمر/ يا شكال شكال). هل اخترع صيغة الجمع هذه، أم وجدها منسيّةً مرميّةً في قرّادة من قرّادات جدّته من أمّه، فلمّها كما يلمّ صبيّ فراشةً مهيضة الجناح، وبثّ فيها نسمة الحياة من جديد؟ 

حين كان عاصي بيننا، كان الوحيد القادر على أن يخترع وطناً من كلمات، وطناً يمتزج فيه الغيم البنفسجيّ بطفل يرسم عيون حبيبته على المطر كي يعجّل في صيرورتها أنثى. وفيه تتحوّل الشبابيك إلى حكايات مفتوحة على اللانهائيّ فيما الناس ذوو الجباه العالية يصبحون بيادر. لقد قالوا وقالوا الكثير عن هذا الوطن غير الموجود. وانتقدوا عاصي على عاصي الذي كان يسافر في المخيال إلى أمكنة تبدو عصيّةً على الواقع. لكن فاتهم أنّ الرمز هو قدس أقداس اللغة، وأنّ الكناية مستودع المعنى. وفاتهم أنّ الحياة التي ينضب فيها الحلم تصير أشبه بالكابوس. وفاتهم أنّ الواقع العظيم لا يتفجّر إلّا من الحلم العظيم. 


يوم الحادي والعشرين من حزيران/يونيو من العام 1986، غادرنا عاصي حنّا الرحبانيّ إلى حيث تتوهّج شمس أخرى. آنذاك، ذبلت ورود مزهريّتنا، وانكسرت سروتنا برحيله، لا لأنّنا سننسى أشعاره وموسيقاه، فهي سمّاقنا وصعترنا وزيتون حقولنا، بل لأنّنا أدركنا من جديد، للمرّة الأولى بعد الألف، معنى أن يموت العباقرة فيما نحن نحسب أنّهم لا يموتون لفرط عبقريّتهم، وأدركنا أنّ العظام قليلُ. غير أنّ أسوأ ما أدركناه ذلك اليوم، هو أنّ شيئاً ما في سمائنا أصبح ناقصاً، وسيبقى ناقصاً إلى الأبد بعد موت عاصي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها