الثلاثاء 2024/08/06

آخر تحديث: 13:11 (بيروت)

صِدام الفلسفة والجاز.. عن لقاء جاك دريدا بأورنيت كولمان

الثلاثاء 2024/08/06
صِدام الفلسفة والجاز.. عن لقاء جاك دريدا بأورنيت كولمان
بعد دقائق من ظهور دريدا في المسرح، ارتفعت احتجاجات الجمهور فبلغت حدّ الشتيمة، مُطالبة "الغريب" بالمغادرة
increase حجم الخط decrease
دائماً ما تُسافر الموسيقى أبعدَ وأقربَ من الكلمات.
(ج.دريدا، من رسالة إلى كاثرين مالابو)

مساء الأول من يوليوز/تمّوز 1997، بدعوة من عازف الجاز الأميركيّ أورنيت كولمان (2015-1930)، ظهر الفيلسوف الفرنسيّ جاك دريدا (1930-2004) في مسرح قاعة لاَفِيلِتْ بباريس: شيخٌ مُتأنِّقٌ في نهاية عقده السّادس، يكسو البياض شعره، يتقدّم نحو المنضدة وسط ذهول وصمت مطبق. يضع أوراقه ويشرع في قراءة نصّ مكتوب. كان كولمان يحمل الكثير من الاحترام للفلسفة بشكل عام، ويُعير اهتماماً خاصّاً لفيلسوف التّفكيك الذي ذاع صيته في كلّ بقاع الأرض، بل كان قد صار واحداً من نجوم أميركا، ومحطّ إعجاب الأكاديميين والفنانين والمعماريين وحتّى الموسيقيّين هناك.

من جهته، كان دريدا محبّاً للجاز، يُشنّف سمعه بمعزوفات ستان جيتز، لكنّه لم يكن متبحِّراً في هذه الموسيقى، ولا عارفاً بعوالم مُستضيفِه كولمان. يقرأ دريدا من الأوراق الموضوعة على المنضدة: "لا أعرف الحديث عن كولمان، لست مُتخصّصاً في كولمان (بالإنكليزيّة)، وليس في استطاعتي الحديث عنه، لي فقط محاولة التحدث إليه، معه هو، والإصغاء له يعزف أو يتكلّم فحسب...".


كذلك تحقّق اللّقاء بين الرّجلين، قبل السّهرة المعلومة، وأجريا محاورة مُطوّلة، نشرتها جريدة "لي زانكوروبتيل"، فأراد كولمان تتويجها بعرضٍ أدائيّ. يقول دريدا: "عند نهاية هاتين السّاعتين (من المحاورة) اقترحّ عليّ الصّعود إلى الخشبة: "لك أن تقول ما تشاء، يمكنك قراءة نص من انتاجك، قول أيّ شيء، وسأجيبك من خلال الموسيقى. لك كامل الصّلاحيّة، ولك أن تتدخّل متى شئت...". مع كثير من القلق، وافقتُ على المقترح، وفي الوقت نفسه استشعرتُ ضرورة القيام بذلك". للوهلة الأولى، في بداهة حفاوة التّعاون الفنيّ بين فيلسوف وموسيقيّ، يبدو عزمهما مسألة ممتعة وجذّابة، بيد أنّها تنطوي على توتّر داخليّ يُفسّر القلق الذي عبّر عنه دريدا لحظة موافقته على المشاركة في الحفلة، رغم اعتراض زوجته مارغريت...

هكذا، بعد دقائق من ظهوره في المسرح، ومن دون أنْ تُقدّمه اللجنة المُنظّمة أو كولمان نفسه، ارتفعت احتجاجات الجمهور فبلغت حدّ الشتيمة، مُطالبةً "الغريب" بالمغادرة على الفور. فما الذي أثار غضب الحاضرين ليلتها؟ هل تصيّد عنف ضيافة كولمان حماسة دريدا لوضعه أمام حيلة الارتجال وشَرك المفاجأة؟ وكيف للفيلسوف إنقاذ صرامة الفكر أمام مباغتة الفن؟

دوّامة التّكرار والارتجال
لم يُخف جاك دريدا يوماً قدومه إلى الفلسفة صُدفة، من طريق الأدب. ولم يتوانَ منذ بداياته في فتح حوارات مع الشّعراء والفنّانين بغاية ردم الفوارق والتراتبيات المعرفيّة التي عزلت التّفكير الفلسفي خلال القرون السّابقة داخل بنيات ومقولات مُنغلقة على نفسها (الوعي النظري الكانطي) ومنفصلة عن أيّ وجود محسوس (الباثوس الهايدغريّ). في المقابل، لم يتنازل دريدا البتّة عن التقاليد الفلسفيّة الصّارمة التي ورثها عن واحد من أسلافه الألمان، إدموند هوسرل، ودافع عنها باستماتة، رغم أنه قد يكون قايضها في بعض اللحظات... يكتب دريدا في "الصّوت والظّاهرة" (1967): "غالباً ما نعتقد بأنّ الحديث بصوت مرتفع يجعلنا حاضرين بالنّسبة لأنفسنا. لكن هذا الحضور في الواقع دائماً مرجئ، أبداً مُكتمل (...) إنّ الكتابة ليست مُجرّد تكملة للكلمة، بل إنّها تكشف البنية التفاضليّة التي هي أساس أيّ دلالة". هكذا، بالنسبة لدريدا، تصير الكتابة صورة للزّمنيّة، ويصبح من المستحيل – على اعتبار الحضور ثمرة لتصوّر مثاليّ هو التّكرار – التمييز بين التمثيل والتمثل، بين الواقع والخيال...


لنعد إلى واقعة الحفلة، أي إلى الورطة التي وضع الفيلسوف فيها نفسه. حسب شهادة بعض الحاضرين، لم يبق دريدا على خشبة المسرح أكثر من ربع ساعة، قرأ خلالها أجزاء متفرّقة من نصّ بعنوان "اللعب – الاسم" كتبه خصّيصاً لهذا الحدث. تضمّن النصّ ألعاباً شبه ارتجاليّة عن مفارقات الارتجال، عن مدينة فورت وورث (تكساس) حيث ولد كولمان، عن أمّ العازف وعن العنصريّة في أميركا... شيئاً فشيئاً، تزاوج صوت الفيلسوف مع عزف السّاكسوفونيست.

يقول دريدا: "ما الذي يحدث؟ (بالفرنسية) ما الذي يحدث؟ وما الذي سيحدث، يا أورنيت، الآن، حالاً؟ (بالإنكليزية) ما الذي يحدث لي، هنا، الآن، رفقة أورنيت كولمان؟ رُفقتكَ (بالإنكليزية)، من؟" ههنا، يتوقّع دريدا الكارثة قبل حدوثها. بيد أنّه، وفيّاً لأسلوبه الجذّاب والملغوم في آن، يحاول مغازلة جمهور الجاز الحاضر، مُضيفاً: "ها أنتم ترون، بين يديّ ما يشبه قطعة موسيقيّة مكتوبة، وتعتقدون بأنّي لا أرتجلها، وأنتم مخطئون. إنّني أتظاهر بعدم الارتجال، أتظاهر فحسب (بالإنكليزية)، وألعب في القراءة، لكن مُرتجلاً". غادر دريدا بعد تصاعد اللّغط داخل القاعة، من دون أن ينهض كولمان للدّفاع عن ضيفه...

الإيمان بارتجال مستحيل
مع كلّ ما أسالته وقتها من مداد، في الصّحافة الفرنسيّة والأميركيّة، لا تختزل واقعة اللّقاء بين دريدا وكولمان مجرّد مادّة إخباريّة عن سوء فهم طارئ بين جمهور عاشق للجاز الحرّ، سليل حركة أيار 1968 الثائرة على سلطة الجامعة والمجتمع، وبين أستاذ يُمثّل سطوة تلك المعرفة القاهرة التي تخلصّوا منها وعادت ليلتها لتحجب من خلال صوت المُعلّم متعة الموسيقى؛ بل إنّ الواقعة تعيد إلى الأذهان شرخاً قديماً بين الخطاب الفلسفيّ المحبوك والتعبيرات الفنيّة المرتجلة، أي بين تاريخ متراصّ للكينونة وتعبيرات عرضيّة للكائن. سيقول دريدا لاحقاً: "أؤمن بالارتجال وأقاتل من أجله، لكن معتقداً دائماً بأنّه مستحيل". وفي قوله هذا ما يُذكّرنا، مع اختلافات وتفصيلات كثيرة، بموقف ثيودور أدورنو (1903-1960) من الجاز. لقد اعتبر أدورنو هذه الموسيقى بمثابة "حداثة زائفة" تحمل في طيّاتها أوهام الحرية وجشع الإنتاج التجاريّ، ورأى في ادعائها التولد عن الارتجال استصغاراً للعقول واختلافاً جوهريّاً مع الفن الذي لا يمكن أن ينبع من غير كدّ الأداء وعرق الحياة.

يكتب أدورنو في "النظرية الجماليّة": "إنّ المقطوعات الموسيقيّة ليست على وجه التقريب أفضل دائماً من الأداءات فحسب، بل إنّها أكثر من مجرّد توجيهات إليها. […] فالتثبيت باستعمال العلامات أو النّوتات ليس خارجيّاً عن الشيء؛ فمنه يكتسب العمل الفنيّ استقلاليّته عن نشأته: ومن هنا تأتي أولويّة النصوص على تأويلاتها". لا يكتفي أدورنو في صِدامه الجذري مع الجاز عند نزع صفة الفن عنه، وإنّما يحشره في دائرة الفاشيّة. فبالنسبة إليه، لا يهتمّ الجاز بالكتابة وبالصّوت وإنّما بالاستعراض، وفي تهريج عازفيه في المسرح من أجل استمالة الحشود، يلتقون مع ساسة الفاشيّة في محاولتهم خداع الناس وايهامهم بأنّ هدماً تحرّرياً ما يحدث حيث لا توجد، في نظره، سوى استمرارية وتكريس الرّاهن. كذلك يمكننا القول إنّ ثقافة البوب، موسيقيّة أو أدبيّة أو بصريّة كانت، ليست ثقافة الشّعب، وإنما هي مستوى متوسط، وسيط وهجين، بالمعنى القدحي للهجانة، بين ذوق المسحوقين وتطلعاتهم الاقتصادية اليائسة. إنها حالة من الوهم التّسويقيّ الذي يجعل من الجماهير سيولة مالية افتراضية تتداولها المنصّات الرقمية، في البنوك والبورصات، وتستعين بها الأنظمة لتخدير الجماهير. الخبز والألعاب.

ولعلّنا نستجلي في ما حدث مع جاك دريدا، قبيل مطلع الألفية الثانية، ملامح ما قد أضحى اليوم تكتيكات حربائيّة لما يُسمّى بالفن المعاصر الذي يدّعي كثير من القائمين عليه، من فنانين وتُجّار ومضاربين في الغاليريهات والبينالات، الاقتراب من قضايا الفكر والمجتمع. بيد أنّهم، في صميم ادعاءاتهم تلك، ينهلون من أدوات ثقافة البوب التي تأسست على تحالف الصّناعة والفولكلور، الإيديولوجيا والانفصام، أي على الاغتراب والانتصار الجماليّ للبشع والمربح، وحيثما تحرّك المال والشهرة تسقط مزاعمهم الانعتاقيّة في انحياز صارخ للشعبوية والشموليّة.

إنّ كولمان "اللطيف للغاية والخجول"، كما وصفه دريدا، وإنْ كان يرتجل جواهر اللّحن، ويستذكر بشجن ممتع تاريخ العبيد ومآسيهم، فإنّه كان قد أصبح بقوّة الواقع جزءًا من آلة إنتاجيّة تُجيّش الحشود وتستلب أموالهم وقناعاتهم السياسيّة، بل وترتجل بأحلامهم وحيواتهم، وبوجودهم حتّى. يكتب دريدا بعد اللقاء: "قلت لنفسي حينها بأنّني لم أكن بالنسبة إليه (كولمان) إلاّ ضرباً من هيئة ظليّة - ولا أعتقد أنه قرأ لي في يوم - ترتسم من أشياء أميركيّة في فضاء أميركيّ".

يحدث أن أستمع لموسيقى الجاز، لكنّي أفضّل عيساوة وشوبان. ثمّ إنّي لن أذهب إلى أميركا قطعاً...


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها