الإثنين 2024/08/26

آخر تحديث: 13:26 (بيروت)

شُعاع مصطفى أزروال: الفوتوغرافيا وخيمياء اللامرئيّ

الإثنين 2024/08/26
increase حجم الخط decrease
"يحرس الأعمى الرُّؤية كما يحفظ الأبكم القول. كِلاهما وصيّان على ما لا يُرى وما لا يُقال... حُرّاسٌّ عاجزون للعدم." (إدمون جابيس)

في العام 1561، انتهت الأشغال بكاتدرائيّة القدّيس باسيل المُبتهج بالسّاحة الحمراء في موسكو. تزعم الرّوايات بأنّ القيصر إيفان الرّابع، المعروف بالرّهيب، فقأ عينيّ المعماريّ بوستنك ياكفلوف، الذي أشرف على تشييد الصّرح المهيب رفقة مئتيّ بنّاء، حتّى لا يتصوّر تصميماً أجمل في المستقبل.

تُقحمنا هذه القصّة، على الرّغم من عدم تواتر صحّتها التاريخيّة، داخل الصّراع المُبكِّر بين سطوة السيف وهشاشة العين. ههنا، على ضوء اقتلاع بؤبؤ ياكفلوف، عند توتّرات العمى والبصيرة، ومقايضات النّور بالعتمة، تتبدّى أعمال الفنّان مصطفى أزروال (تور، 1979)، في بُعدها الجماليّ والسياسيّ، باعتبارها قِلاعاً تحرس انبلاج الضّياء وتُفتِّشُ في بلاغة الصّورة وجنينيّتها، أي قبل أن تتشكّل على الهيئة التّصويريّة البدئيّة. يتعلّق الأمر إذن بالحفر في التقاليد الغربيّة، الأفلاطونيّة والأرسطيّة، ومساءلة القَدَر الحديث للإدراك البصريّ، في خضمّ التحوّلات التقنيّة والتكنولوجيّة، بداية بظهور الفوتوغرافيا منتصف القرن التاسع عشر وحتّى إشاعة الكاميرات الرقميّة، واكتساح الهواتف الذكيّة لجميع الفضاءات المعاصرة، العامّة منها والخاصّة.

خطاب مصطفى أزروال الإستيطيقيّ، قد يُغري بالمغامرة نحو تأويليّة صوفيّة ساذجة لأعماله، بيد أنّه أقرب ما يكون إلى ميكانيكا الحِيل وفيزياء الكمّ، في فتنتها ودقّتها ولامعقوليّتها. هكذا يمزج الفنّان الصّمغ العربيّ بالجيلاتين، ويخلط الأصباغ بالأشعّة والجلود، ليكتب بالضّوء جاثوم الأطياف على أنسجة القرنيّة.

يقول أزروال لـ"المدن": "لقد أثّر تكويني (الهندسة الميكانيكيّة) في ممارستي الفنيّة، وأعتقد أنه وجّهني نحو تطوير منهجيّة تحليليّة للوسيط الفنيّ (...) فكانت المدرسة التفكيكيّة الأقرب إلى انشغالاتي وتحدِّياتي المفاهيميّة، وهي تسكن الآن كامل ممارستي حتّى وإنْ كنتُ أضمر ذلك اليوم!". كذلك ينخرط أزروال في تفكيك الأنوار الأوروبيّة، بإرجاعها إلى وضعيّات سابقة على العقلانية المحضة، مستئنساً في ذلك بكتابات جاك دريدا، عائداً إلى غوتفريد لايبنتس الذي يحاوره من خلال سلسلته الجوهر الفرد (2021) حيث يحاول القبض على الومضة الهاربة... عن أيّ فوتوغرافيا يدافع أزروال؟ وهل لنا فهم شُعاعه انطلاقاً من معادلة شرودنغر؟    



فإذا هي حيّة تسعى 
في لوحته موسى والثّعبان البرونزيّ، يستردّ الرسّام الفلامنكيّ أنطون فان ديك (1599-1641) أسطورة توراتيّة عن بني إسرائيل، ويُجسّدها بالصّباغة الزيتيّة على مِتْرَيْنِ من قماش. يظهر الشّعب مُنهكاً دامياً، وقد لدغته الأفاعي الهابطة من السّماء. يسيح السّم على أطراف القزحيّة ويذرف "يهوه" الدّموع. لكنه يغفر لشعبه. نرى النبيّ، وجنبه أخوه هارون، مُمسكاً بعصا التفّ حولها ثعبان. كلّ من لُدِغَ ونظر إليه يحيا. لكن هذا الثعبان المنقذ، ليس هو الأفعى المعروفة التي تظهر في الآية العشرين من سورة طه، قبل الخروج من مصر. يقول أزروا: "أسعى إلى إنشاء موضوعات مستقلّة بذاتها، ليس لها وجود إلاّ أمام عيوننا، وهذه الموضوعات المنبثقة عن الضّوء تسمح بخلق تجارب جديدة مع التّصوير الفوتوغرافيّ". بهذا المعنى، لا تكون حيّة موسى مجرّد محاكاة للعصا، بل إنّها الشيء ونقيضه معاً، في انشطاره الديكوتوميّ بين المحسوس واللاّماديّ. قال خُذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى.

إنّ أعمال أزروال لا تحاكي بأيّ شكل من الأشكال الواقع، كما نراه في التصوير الفوتوغرافي الشّائع، ولا تنتمي إلى المدارس الحضريّة أو الوثائقيّة أو المعماريّة منها، بل إنّه يذهب حدّ مناهضة الفوتوغرافيا ومقت الصّورة نفسها. يتخلّص الفنّان من الآلة، يطوِّحُ بها على أطراف الشّمس، مثلما يلقي النبيّ عصاه في أقاصي البرّية.

يشرح أزروال: "قبل أكثر من عشرين عاماً، كنتُ محظوظاً بتعلّم تقنية الصّمغ ثنائيّ الكرومات. إنّها تقنية تسمح لي بإنتاج أعمال تبتعد عن الفوتوغرافيا التقليديّة وعن الافتراضات التي تحملها". تلقّى أزروال هذه التقنية عن المُعلِّم إيريك مينغال مستغنياً عن الكاميرا. كلّ ما يحتاجه: أوراق وظلال، وصمغ عربيّ وألوان ومحلول مشبع بثنائي كرومات البوتاسيوم (9%). يضع هذا المزيج فوق سطحِ هُلاميّ، بعد التجفيف في الظل، ثم يعرّضه للضّوء عبر تماس أشعّة فوق بنفسجية طبيعية أو ضوء مصباح، ويغمره في حوض ماء بحرارة 20 درجة مئويّة...

ما وراء المشهود
في العام 2014، شرع مصطفى أزروال في التّعاون مع مرصد باريس-مودون، أقدم مرصد فلكيّ في فرنسا، وذلك في إطار مشروع إليوس (2016)، وهو دراسة فوتوغرافيّة للشّمس قامت على افتراض أنّ كلّ ما يجعل الأشياء مرئية هو في جوهره غير مرئيّ. عُرضت بعض مُخرجاتها في البينالي الثانية للفن العربي بباريس تحت عنوان الصّورة الثالثة، رفقة الفنانة السّورية سارة نعيم. بعد ذلك، جاء مشروع إيكو باعتباره تكملة للدّراسة الفوتوغرافية الأولى عن الشّمس. في هذا العمل، يُترجم أزروال إعجابه بلاماديّة الضّوء إلى ما يُسمّيه "أركيولوجيا استعادة التمثيلات البدائيّة للشّمس". يكتب موريس ميرلو-بونتي في فينومينولوجيا الإدراك: "اللّمعة تُرى فقط من طرف العين. إنها لا تُعرض كهدف لإدراكنا، بل هي مساعد أو وسيط. لا تُرى هي نفسها، بل تجعل بقية الأشياء تُرى. إنّ اللّمعات والإضاءات غالباً ما تُعرض بشكل سيء في الفوتوغرافيا، لأنّها تتحوّل إلى أشياء...".

لا يخفي أزروال امتعاضه من الأعمال التي تحوّل اللّمعات إلى أشياء تؤثث الشّاشات وتغذي الوهم الاجتماعي الرّاهن، وهو في ذلك يقترب من التجريد الذي قد يبلغ أحياناً حدّ الغموض والإبهام. من آكتان (2019) إلى الجوهر الفرد (2021)، يحتدّ التوتر بين عناصر الرؤية وتمظهرات الضّوء على أحجام خفيّة وبارزة. في آكتان، يتجّسم الضوء في منحوتات من السّيراميك والبرونز، ويبقى في حركيّة مستمرّة تُذكيها تقنية الطّباعة العدسيّة. أمّا في الجوهر الفرد، فالعين تتوقّف عن كونها آلة البصر. تلمس العين، اللاّمرئيّ، كما لو كانت يداً. إنّها أشكال بسيطة ومُشعّة في الوقت نفسه، اشتغل عليها أزروال داخل المختبر عبر تعريض الورق لفلاشات قويّة تنقش أثرها على السّطح، وتُقحم المُشاهد في سيرورة بصريّة وشِعريّة تحاذي قتامة الخسوف ودهشة القيامة.  

قياس البحر ورائحته 
إنّ كلّ تجربة محسوسة قُدّام الصّورة تكون مغروسة في الزّمن المنفلت، وبذلك تتشكّل كلّ لحظة إدراك باعتبارها بداية التّاريخ. في عمله إشعاع (2015-2016)، يقوم أزروال بتسجيل اللّون وأرشفته، وذلك انطلاقاً من الفرضية القائلة بأنّ سيطرة المصور على الألوان محدودة نظراً لطبيعة الوسيط نفسه. يكتب الحسن ابن الهيثم (965-1040) في كتاب المناظر: "فأوضاع أجزاء سطح المبصر بعضها عند بعض في اختلاف الجهات وفي التفرق والاتصال إنّما يدركها البصر ويدرك ترتيبها من إدراكه لأجزاء الصّورة التي تحصل في البصر لجملة المبصر وإدراكه لاختلاف الألوان والفصول التي تتميّز بها الأجزاء ومن إدراك القوّة المميزة لترتيب أجزاء الصّورة". هكذا، في سعيه للإمساك بتباينات الألوان خلال شروق الشمس أو غروبها، سلك أزروال مسلك جردٍ جغرافيّ، حمله من إيسلندا إلى شمال فرنسا، مروراً بالمغرب، وحتّى بيكين؛ للحصول على أربعة أو خمس تنويعات لونيّة تتغيّر بتغيّر المبصر إليها.



في مشروعه الأخير الشُّعاع الأخضر* (2024)، انتقل مصطفى أزروال من البرّ إلى البحر. وبعدما اشتغل مع حرفيّين مغاربة في جبال الأطلس على استعادة منقوشات صخرية فعّلها داخل إعادة كتابة لتاريخ مفترض للشّمس، أوكل هذه المرّة للبحّارة مسؤولية اصطياد الضّوء. يقول أزروال لـطالمدن": "في مشروع الشُّعاع الأخضر، اخترت التعاون مع البحّارة ومنحتهم ما لا يعهد به المصور عادة إلى أحد: التقاط الصّور!". مرّة أخرى، وفيّاً لموقفه من الوسيط الفوتوغرافيّ المعطوب، يتخلّى الفنان عن آلته، فالتصوير لا يهمّه كثيراً بقدر ما تهمّه التجربة المُضنية قُدّام العمل الفنيّ. يُضيف: "قمت بتشكيل أعمال من الصّور التي التقطها البحّارة، وهي أعمال بصرية وُلِدَت من الألوان المستخرجة من الصور التي التقطوها -هم- في عرض البحر!"

بمشاركته في معرض الشجرة والمُصوّر (2011)، بدأت مسيرة أزروال الفنيّة، حيث عرض سلسلته انبعاث في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة بباريس. يحمل هذا العمل كلّ الفوتونات النّزقة والومضات الإشراقيّة التي سترافقه في أعماله اللاّحقة، ونستشعر من خلاله عزم الفنان على القطع مع المحاكاة والإطناب والرتابة الفوتوغرافيّة...

لمّا زرته في محترفه بمدينة تور الفرنسيّة، تعرّفت على رجل دمث وهادئ، يُخبرني بصوت خفيض لا حنين فيه: "أزور المغرب بانتظام ودائماً ما يبهرني جمال الضّوء وغناه هناك، إنه ضوء غامرٌ يحوّل المناظر الطبيعيّة والسّماء والوجوه".

يبدو أزروال مسكوناً بالضّوء، في شاعريّته وهشاشته وانفلاته الأبديّ عنّا، ونحن سائرون نحو نهايتنا. كذلك يتشبّث الفنان، غير بعيد من نهر لُوار، بكلّ الإمكانيات التي تفتحها معادلة شرودنغر. أمّا الشِّعر، فيجده في الكتابات النظرية عن الفن وفي الفلسفة التي ما تنفكّ تغرس في أفئدتنا درسها السّحيق: الدّهشة.

(*) تُعرض منشأة "الشُّعاع الأخضر" لمصطفى أزروال والقيّمة الفنية مارجولين ليفي، الحائزة على جائزة بي إم دبليو لصُنّاع الفنّ 2024، في إطار لقاءات آرل الفوتوغرافيّة (فرنسا) حتّى 29 أيلول 2024.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها