الخميس 2024/08/01

آخر تحديث: 12:55 (بيروت)

تعويذات غيراسيم لوكا.. أربعون عاماً من التّداوي بالتّأتأة

الخميس 2024/08/01
تعويذات غيراسيم لوكا.. أربعون عاماً من التّداوي بالتّأتأة
أراد لوكا أن يجعل من الشّعر برنامجاً ثوريّاً
increase حجم الخط decrease
إذا استثنينا خمسة قصائد ترجمتها الكاتبة اللّبنانيّة جمانة حدّاد في مؤلّفها «سيجيء الموت وستكون له عيناك – مئة وخمسون شاعراً انتحروا في القرن العشرين» (2007)، فإنّ المكتبة العربيّة تخلو تماماً من نصوص الشّاعر الرّومانيّ غيراسيم لوكا (1913-1994)، بل إنّه يكاد يكون مجهولاً في بلداننا، عند الجمهور والمتخصّصين حدّ السّواء. وعلى الرّغم من إقامته في باريس على مدار أربعة عقود، ومساهمته في الحياة الثقافية والفنية والأدبية هناك، إلاّ أنّه ظلّ - قيد حياته - شخصيّة هامشيّة ومغمورة مُهدّدة بالطّرد والتّرحيل. يقول عنه جيل دولوز: "هو أعظم شعراء الفرنسيّة (...) وذلك لأنّه يُبدع ارتجاجات وتدويرات وتحويمات وجاذبيّات ورقصات أو وثبات تنفذ مباشرة إلى الرّوح". ولد لوكا في بوخارست، وفقد والده الخيّاط وهو في ربيعه الأوّل. مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، قبيل اشتعال الحرب العالمية الثانية، قاطع الجامعة مُتخلِّياً عن دراسة الكيمياء حتّى يتفرّغ للكتابة، فنشر نصوصه في المجلّة الطليعيّة "طحالب"، وأنهى لاحقاً عمله غير المنشور «شعراءُ العشرين ربيعاً أو أمٌّ تأكل أذن ولدها» (1938) الذي اعتبره الباحث لوليان توما أوّل مؤلفات لوكا المكتوبة بالفرنسيّة.

تضجّ أعمال لوكا الشّعريّة بالتضادات والأكوسيمورات، مُتنقّلة بين البهجة المريرة والشّجن السّعيد، وتنحو ناحية صناعة شكليّة مفرطة، سمّاعيّة وإيقاعيّة، تمزج بين الكتابة الصّوتيّة والتحليل النفسيّ. كذلك تتّسم أعماله بالتلعثم، مع تعددية مربكة للمعاني (قد تستحيل معها ترجمة نصوصه)، وهو نهج اعتمد فيه على التّكرار المقطعيّ، ويظهر بقوّة في عروضه الأدائيّة المُصوّرة. منذ بداياته، تأثرت أعمال لوكا بالسريالية وميولاتها الفرويديّة، دون أن ينتسب إليها، فتبدّى ذلك من خلال التّداعي الحرّ والخيال الهذيانيّ والتفكيك اللّغويّ، بالإضافة إلى تأثيرات سياسيّة نابعة من الماركسيّة الهيغليّة، برزت بجلاء في تأمّلاته الفلسفيّة/الشّعريّة منذ صدور «ذئبٌ عبر عدسة مُكبّرة» (1942)، مروراً بـ«مصّاص الدّماء» (1945) و«ديالكتيك الديالكتيك» (1945) و«البطل-الحدّ» (1953)، وحتّى «تغريدة الشبُّوط» (1975). ما الذي أراد هذا الأشكنازيّ التخلص منه أثناء رحلته الطويلة بين الجماجم والحروف؟ وكم كانت درجة حرارة الماء حين غطّى نهر السّين جسده؟

من التّيه إلى التّأتأة
بإيعاز من صديق حميم، استعار سلمان لوكر لنفسه هويّة أخرى: غيراسيم لوكا، عالمُ لغويّات بارزٍ، كما نَعَتْهُ إحدى الجرائد في صفحة الوفيات. هكذا اختار سلمان، كما قال، "اسماً وضياعاً" سيرافقانه حتّى أيّامه الأخيرة. نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، انتقل إلى فرنسا وتواصل مع أندريه برتون لكن اللقاء بينهما لم يتحقّق. ثمّ أجبرته الحرب على الرّجوع إلى رومانيا حيث خضع للخدمة المدنية الإجباريّة. وقبل ذلك بسنوات، اختفى لوكا في إيطاليا مبتعداً عن قبضة النازية. مباشرة بعد نهاية الحرب، قررّ التخلي عن الكتابة بلغته الأمّ، هو الذي أتقن الألمانية واليديشيّة، ليعتمد الفرنسية نهائياً لغة للكتابة. يكتب دولوز في «النّقد والعيادة» (1993): "ينهل (لوكا) قِواه من أقلية صامتة ومجهولة لا تنتمي إلى سواه. إنّه غريب داخل لغته الخاصّة: لا يخلط لغة أخرى بلغته، بل يُشذِّبُ داخل لغته لغةً أجنبيّة لم توجد قطّ من قبل". كذلك انفصل غيراسيم لوكا، لغة وفكراً، عن السريالية الفرنسيّة، مشكلًا مفهوم "الفوق-أوتوماتيكية" الذي فتح طرقًا إشعاعية للتحرر من أيّ طابع أوديبيّ.


ولمّا تنازل ميشال الأوّل، ملك رومانيا، عن الحكم للتحالف الشيوعيّ المدعوم من طرف الاتحاد السّوفياتي، تمّ اعتبار غيراسيم لوكا، رفقة مجموعة من الفنانين والأدباء الطليعيّين الثوريين، على اختلاف توجّهاتهم الإيديولوجيّة؛ رهطاً من المنحرفين والمارقين. عندئذ، عزم لوكا الهروب من رومانيا، ولم يكن ذلك ممكناً إلاّ عبر طلب تأشيرة إلى الأراضي المُحتلّة (إسرائيل). بعد خمس سنوات من الانتظار، حصل على تصريح مرور مكّنه من بلوغ باريس العام 1952. يكتب لوكا: "منذ بدأت أعيش أحلامي، ومنذ أصبحت معاصراً للقرون اللاّحقة، لم أعد أعرف الموت بالوجه المُدمِّر الذي احتفظ به في المجتمع الرّاهن. وفي لحظات الاكتئاب الشّديد أدركت أنه في العالم القذر الذي وُلدت فيه، سأكون مُجبراً على الموت، كما أنني مضطر اليوم لمجاورة الكهنة والشّرطة في الشارع".

كيف نكتب بعد الكارثة؟
لا شكّ أنّ عمليّة التطهير العرقيّ التي تمارسها دولة الاحتلال الإسرائيليّ في غزّة اليوم تعيد إلى أذهاننا، على المستوى الوجوديّ والإيطيقي، الوضع الذي كان عليه المفكرون والمبدعون من يهود أوروبا الشرقيّة الناجين من المحرقة، وتذكّرنا بموقف الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو من عملية الإبداع بعد الهولوكوست. يكتب أدورنو: "إنّ كتابة قصيدة بعد أوشفيتز فعل همجيّ...". شأنه شأن صديقه بول تسيلان، الرّوماني الآخر الذي غرق في التأتأة الإبداعيّة واختار باريس للعيش والفناء، يستدعي لوكا موضوعات الموت والجسد واللّغة، ويغرف من الكابالا والعرفان اليهوديّ تعويذات يتحصّن بها من جنون المِلّة وإصر الأطياف. بيد أنّه، على عكس تسيلان سليل الرومنطيقية الألمانية، يلتقي مع الدادائيّة في أساليبها السّاخرة وشعوذاتها اللّسانيّة. يكتب لوكا في إحدى قصائده: "ما من أحد نستطيع أن نقول له/  ليس لدينا شيء نقوله/ وإنّ اللاّشيء الذي نقوله/ لأنفسنا/ بلا انقطاع/ نقوله/ كما لو كنّا لا نقول/شيئاً...". وبينما يُشيّد تسيلان نصّه عند حافة الغياب والصّمت، ويجعل من الكتابة إصغاءً جنائزيّاً لصور الرّاحلين، ينحت لوكا شعره في المسافة المستعصية بين الجدّ والهزل، بين الصّوت والظاهرة، جاعلاً من الفكاهة والألعاب السيميائيّة سبيله إلى توليد الأصداء والأفكار.


هكذا أراد لوكا أن يجعل من الشّعر برنامجاً ثوريّاً وعمليّة شاملة تخترق مجرّد فعل الكتابة، بل تنتقل إلى الوسائط الإبداعيّة المختلفة، من فنّ تشكيليّ وكولاج وعروض أدائيّة، وهو ما برز من خلال عشرات المساهمات في المعارض والمتاحف عبر العالم... ومع أنّ كلاً من غيراسيم لوكا وبول تسيلان يجتمعان معاً داخل ذات البلبلة الزمنيّة والشبحيّة، لكنهما يفترقان بالضبط في علاقتهما باللغة ووسائطها. إنّ إبداعات غيراسيم موضع لاضطراب وجوديّ وموضوع للاحتفال بالجسد/ النص الزّائل الذي يقطّعه لوكا إلى مربّعات، ثم يعيد تجميعها حسب مبدأ يطلق عليه الصُّدفة الموضوعيّة: لم ينفصل اشتغال لوكا على سؤال الموت عن انشغاله بتيمة الجسد إذن، وغالباً ما اتّسم بالعنف الإيروتيكيّ المتجسّد في جزّ الكلام وتسريع الإيقاع، وفي التكرارات الهذيانيّة حدّ الجذبة والجنون.

انتحار في السّين
في نصّه «الموت الميّت» (1945)، يأتي غيراسيم لوكا على ذكر محاولة انتحار كان قد أقدم عليها قبل هجرته إلى فرنسا. بالنسبة إليه، يتوجّب علينا أن نموت في هذه الحياة التي أتينا إليها بسبب حادثة بيولوجيّة، وعلينا أن نموت باستمرار لإعادة ابتكار الحياة كلّ مرّة نعود فيها إليها، كما لو كنّا نبتكر الحبيبة المتخيّلة أمام مرآة. يكتب: "جسدها قرب المرآة غلطة/ وحيث أنا ليس سوى/يمامة/لكنّ الآخر كان يُفكِّر:/ ثمّة شيء يحدث/ ىفي وضعيّة محدّدة/تنزلق بين شفتيّ/هل هي نهاية العالم؟". على هذا النحو، يشاركنا لوكا تحليله للموت، ساعياً لمعرفة ما يمكن أن يربط الإنسان بالانمحاق والعدم. وفي مواجهته للاكتئاب، يجد نفسه ضحية لفناء حتميّ لم يطلبه. لذلك، يرغب في التحكم: هل يجب أن يضع حدّاً لكلّ هذا؟ يرمي نفسه من شاهق أم يلعب الروليت الروسيّة أمام كأس من الويسكي؟

ربيع العام 1994، انتحر غيراسيم لوكا بعدما بلغ 81 عاماً. اختار التسلّل إلى إحدى ضفتيّ نهر السّين، مندسّاً بين طوابير العشاق والسكارى، وهو يتمايل. كان يتمايل، كما لو كان يُمسرحُ سقطته النهائية. خالف لوكا طريقة صديقه تسيلان الذي اختار طريقة أكثر استعراضيّة: ألقى بنفسه من جسر ميرابو، أربعة وعشرين عاماً قبله... كان اللّيل، وكان الماء بارداً، ولعلّه كان يسمع بين مدّ وجزر النّهر "ظلمات" صاحبه تتردّد:


"قريبون نحن، مولاي،

قريبون ومُدرَكون. دُركنا سلفاً، مولاي،
متمسّكون الواحد بالآخر، كما لو أن
جسد كلّ واحد منا
كان جسدك، مولاي. صلّ، مولاي،
صِلنا
إنّنا قرابى. مشوّهون سعينا
وسعينا، حتّى ننحني
إلى المِعلَف والثقوب.
إلى الحوض سعينا، مولاي
كان دماً، كان الذي
كنت أرقته، مولاي. كان يلمع.
كان يرمينا بصورتك في الأعين، مولاي. لقد شربنا،
مولاي.
الدّمَ والصّورة، التي كانت في الدم، مولاي. صلّ، مولاي.
إنّنا قريبون".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها