السبت 2024/08/17

آخر تحديث: 12:10 (بيروت)

بوبي فيشر على الرُّقعة... معارك المشّاء إلى ظلّه

السبت 2024/08/17
بوبي فيشر على الرُّقعة... معارك المشّاء إلى ظلّه
رفض الخضوع للعلاج من القصور الكلوي
increase حجم الخط decrease
"لقد تزوّجتُ ناديجدا كروبسكايا لأنّها الوحيدة القادرة على فهم ماركس ولعب الشّطرنج
(فلاديمير لينين)

يوم 13 يوليوز/تمّوز 2004، بينما كان يستعدّ للتّحليق من طوكيو إلى مانيلا، أوقفت شرطة الحدود اليابانيّة بطل العالم في الشّطرنج بوبي فيشر (1943-2008)، وأودعته مركز اعتقال الأجانب لمدّة تسعة أشهر، في انتظار تسليمه لواشنطن. كانت وزارة العدل الأميركية قد ألغت صلاحيّة جواز فيشر بعدما خرق الحظر المفروض على يوغوسلافيا بمواجهته بوريس سباسكي في بلغراد العام 1992. من وقتها، أصبح فيشر موضوع مذكّرة بحث فيديراليّة دفعته للهروب لمدّة 12 عاماً، قضاها متنقلاً بين المجر وألمانيا والفيليبين، وأخيراً اليابان، حيث تزوجّ حبيبته ميوكو واتاي، رئيسة فيديراليّة الشّطرنج هناك. وعندما كان المحافظون، برئاسة جورج بوش الابن، خائضين في الدّم والانتقام، كان فيشر قد صار واحداً من الأعداء المُعلنين لموطنه. يقول في تصريح لإذاعة فيليبينية مُعلِّقاً على أحداث 11 أيلول: "إنّه لخبر رائع حقّاً! قامت أميركا وإسرائيل بذبح الأطفال الفلسطينيين لسنوات، والآن جاء الدّور علينا (...) الموت لأميركا ولتذهب إلى الجحيم...".

كما فريدريك نيتشه، الذي كثيراً ما أحبّ فيشر الاستشهاد به، نشأ بوبي في وسط أسريّ متوتّر، غاب عنه الأب، وطبعه العوز الاقتصاديّ والاجتماعيّ. فقد كانت أمّه ريجينا، الطبيبة المُنتمية لمجموعة برتراند راسل ضدّ التسلح النووي والعضوة في الحزب الشيوعي بالولايات المتحدة، منهمكة في تنويع مصادر الدّخل لتربية طفليها، ولم تتمكّن من تحصيل وظيفة قارّة نظراً لمضايقات مكتب التحقيقات الفيديرالية بسبب شبهة التجسس لصالح الاتحاد السوفياتيّ. أمّا والده البيولوجيّ فلم يكن هانز جيرهارد فيشر، العالم الألمانيّ الذي منحه لقبه، بل كان عالم رياضيات مجريّ يُدعى بول نيميني (1895-1952)، والذي رافقه مرّات قليلة قبل وفاته. بين غياب الأب وانشغالات الأمّ، صار بوبي طفلاً انطوائيّاً، يدرس الافتتاحيّات والاستراتيجيّات الشطرنجيّة على رقعة أهدته إيّاها أخته الكبرى، وهو يتأمّل العابرين من حيّ بروكلين. فما الذي تنبّأت به العرّافة أمام معبد أبولو في دلفي؟ وكيف انتهى العاهل المُبجّل بيدقاً معزولاً تصطاده الفِيَلَة ونِبال القِلاع؟ 

هجوم الملك الهنديّ

وجد بوبي فيشر العزاء والرُّفقة الدّائمة في الشّطرنج. هكذا، مع مُضيّ السّنوات، تحوّل من مجرّد صبيّ يتمرّن داخل غرفة مملوءة بالصّراصير والكتب، إلى أصغر أستاذ دوليّ في تاريخ اللّعبة. في سنّ الرّابعة عشر، أصبح بطلاً على أميركا كلّها، واحتفظ باللّقب ثماني سنوات متتالية. وبعد حصوله على المركز الخامس في بطولة المناطق المؤهلة في يوغوسلافيا، هيمن فيشر على بطولة بالما دي مايوركا، مكتسحاً أساتذة مشهورين مثل تيجران بتروسيان ومارك تايمانوف وبنت لارسن. يقول فيشر ساخراً: "عندما أصل، أقول له (الخصم) مرحباً، وعندما أهمّ بالمغادرة أقول له كش مات". كذلك أصبحت عقيدة الانتصار ملّة فيشر الوحيدة، ولم يتبقّ له سوى التّاج العالميّ لتكتمل سيادته. لكن سيادته هذه، إبّان الحرب الباردة، كانت مهدّدة بالاستغلال السياسيّ والإيديولوجيّ بين المعسكرين المتحاربين. في العام 1968، زار فيشر، رفقة لاعب يونانيّ مغمور والأستاذ اليوغوسلافي الكبير تريفسونوفيتش، معبد أبولو في دلفي-اليونان. وقف بوبي مذهولاً أمام المعبد، وجنب مذبح الكاهنة، كان سؤال تريفسونوفيتش: "هل سيفوز فيشر ببطولة العالم؟"، فجاءت الإجابة قريبة من الصواب: "سيُغيّر لقبه".

صيف العام 1972، وعلى مدار شهرين كاملين، في ريكيافيك الأيسلنديّة، تواجه كلّ من بوبي فيشر وبوريس سباسكي في ما أضحى يُعرف بـمباراة القرن. لعب الخصمان 21 جولة تقدّم في بدايتها سباسكي على فيشر. في الجولة الثالثة، وهو متأخرٌّ بجولتين، راهن فيشر على دفاع «بَنْ أوني». جاء في الآية الثامنة عشر من الإصحاح 35 في سفر التكوين: "وكان عند خروج نَفْسِهَا (راحيل)، لأَنَّهَا كانت تحتضر، أنّها سمّته بَنْ أُونِي. وَأمّا أبوه (يعقوب) فدعاه بنيامين". تعني بَنْ أوني "ابن عذابي" في العبريّة، وهي إحدى أكثر الدفاعات الشطرنجيّة خطورة. كأنّ اللاّعب، فيشر في هذه الحالة، يعلن لخصمه بشراسة مصارع ثيران: لن أقبل بالتعادل، وسيكون عليك القتال حتّى الموت. هكذا هزم فيشر سباسكي بنتيجة 12½ مقابل 8½، ليصبح البطل الحادي عشر للعالم في الشطرنج؛ وليلخّص نزالهما - مع كلّ ما سبقه وتخلّله من مشادّات إعلامية ونفسيّة - احتدام المنافسة بين القطبين المتناحرين على الريادة في العبقرية. بيد أنّ الجنون هو الذي انتصر.

فيشر ضدّ فيشر

خلال طفولته، داخل عزلته النيويوركيّة القاتمة، كان بوبي يلعب المباريات ضدّ نفسه. يكتب ستيفان زفايغ: "الرّغبة في لعب الشّطرنج ضدّ نفسك هي مفارقة تشبه الرغبة في المشي على ظلك". لقد ورث فيشر عن والديه، وربّما عن جدّته لأمّه أيضاً (حسب تقارير طبية ومخابراتيّة متعدّدة) قوّة الذاكرة والتخيّل المكاني، علاوة على رُهاب اضطهاد تحوّل مع الوقت إلى جنون ارتياب حاد. بعد فوزه ببطولة العالم العام 1972، انتقل فيشر إلى لوس أنجليس ورفض الشّروط التي وضعها الاتحاد الدولي لإقامة مباراة الدّفاع عن اللّقب العام 1975 ضدّ اللاّعب السوفياتي أناتولي كاربوف. بذلك استقال من لقبه، ودخل ما أطلق عليه كُتّاب سيرته "سنوات التيه والتوحش": رفض دفع الضّرائب وانسحب من كنيسة الإله الكونيّة، مُهاجماً مؤسسيها، منقلباً على فكرة الخلق، وصابّاً غضبه على كلّ اليهود -هو اليهوديّ من أبويه- والذين رأى فيهم خطراً على العالم. يقول فيشر: "قرأتُ مؤخراً كتاباً لنيتشه يقول فيه إنّ الدين موجود فقط لإضعاف قدرات الناس. وأنا متّفقٌ معه".

من منتصف السّبعينيات وحتّى أواخر الثمانينيات، عاش فيشر عزلة نسبيّة أنهى خلالها علاقاته مع العديد من الأصدقاء والزّملاء السّابقين الذين اتهمهم بالخيانة. وباستثناء ثلاث مباريات لعبها ضدّ كومبيوتر معهد ماساتشوستس للتقانة العام 1977، فقد أقلع عن مواجهة أيّ خصم، وآمن بأنّ الكي جي بي والموساد تلاحقانه لاغتياله. يُصرّح بوبي: "الشيوعية السوفياتيّة هي في الأساس قناعٌ للبلشفية التي هي قناع لليهوديّة". في مايو 1981، تمّ اعتقال فيشر من قبل شرطة كاليفورنيا للاشتباه في محاولته السطو على بنك. قضى يومين في السجن، ووصف هذا الحادث في مقال سجاليّ نشره تحت عنوان "لقد تمّ تعذيبي في سجن باسادينا". على هذا النحو، في استرداد لاواعٍ للشّتات والضّياع، وداخل مواجهة مباشرة مع مركزيّة إسرائيل في ذهنه، ولج فيشر نظاماً من التناقضات الدراماتيكيّة، سمّاه جاك دريدا بالوعي المارانيّ، يقوم على ميلاد يهوديّ مختلف يرفض الانتساب إلى وطن أو شعب، ويُشكّك في كلّ شيء لينفذ بجلده من إصر المواقف الدينيّة والهوياتيّة التي أرقته آلاف السنين.  

تضحية البيدق

مطلع التسعينيات، خرج فيشر من "غيبته" بفضل شابّة تُدعى زيتا. حرّضته على العودة للّعب، وذيّلت رسالتها إليه كالتالي: "فتاة مجريّة طامعة في علاقة جدية". زارت زيتا بوبي فيشر في أميركا، ونجحت في إقناعه بلعب مباراة، لم يعتمدها الاتحاد الدوليّ للشطرنج، ضدّ بوريس سباسكي في بلغراد، بُعيد انهيار المعسكر الاشتراكيّ. ورغم قرار وزارة الخزانة الأميركيّة بحظر أيّ نشاط تجاريّ مع يوغوسلافيا، إلاّ أنّ فيشر تجاهل المنع وبصق على وثيقة رسميّة تقضي باعتقاله أمام الكاميرات. انتصر فيشر على غريمه التقليديّ، وربح على إثر ذلك 3,35 مليون دولار... لتبدأ مرحلة أخرى من حياته بين المنفى والسرية، سافر أثناءها بين إيطاليا وألمانيا والأرجنتين ودول آسيا. يقول فيشر: "أحبّ آسيا. طعامها ومناخها. وعلى الأقل، هناك يمكنني أن أقول ما أريد عن اليهود". اشتدّت تصريحات فيشر بخصوص أميركا واليهود، وتعالت مقابلها الاتهامات ضده بمعاداة السامية. لكنه بقي يدافع عن نفسه بالقول: "إنّ العرب ساميّون، وأنا لست ضدّ العرب".

بعد اعتقاله في اليابان، أطلق فيشر نداءات الاستغاثة إلى البلدان الصديقة، لأنّه "لا يريد العودة إلى الولايات المتحدة التي يحكمها اليهود" ولا يبتغي "البقاء في يابان عدائيٍّ وقاسٍ وفاسدٍ تسيطر عليه أميركا"، على حدّ تعبيره. كانت كلّ من أمّه وأخته قد توفيتا من دون أن يحضر جنازة أيّ منهما. يصرّح زوج جوان، أخت فيشر، مُعلقاً على اعتقاله: "هذا مجرّد تشتيت للانتباه عن مقتل 900 جنديّ أميركيّ في العراق وعن الاقتصاد المتعثر. إنهم غير قادرين على العثور على بن لادن، لذا قاموا باعتقال بوبي". آنذاك، منحت السلطات الأيسلنديّة بوبي فيشر اللّجوء السياسيّ، ثم المواطنة الكاملة، لتفادي ترحيله إلى بلد لم يعد بلده. ومع أنّها وقّعت على معاهدة تسليم المجرمين مع الولايات المتحدة، فقد رفضت آيسلندا التضحية بـ"ضيفها العزيز"...

عاد فيشر إلى خليج الأدخنة، ريكيافيك، المدينة التي شهدت جلوسه على عرش مملكة الشّطرنج، وكانت في الآن ذاته مسكن شياطينه وأطيافه الرّاحلة. كان فيشر يخرج للتنزه والتبضع، باحثاً عمّا تبقى من ظلّه الطفولي البائد الذي التهمه الجنون والمرض. توفيّ بوبي العام 2008، بعدما رفض الخضوع للعلاج من القصور الكلوي، عن عمر يناهز 64 سنة. مثل نبوءة أو قدر، 64 هو بالضّبط عدد تربيعات الرُّقعة المهجورة. قال البطل الروسي غاري غاسباروف في نعيه: "يمكن اعتبار فيشر بكلّ بساطة مؤسس الشطرنج الاحترافيّ. وهيمنته، رغم أنها كانت قصيرة جداً، جعلت منه الأعظم على مرّ العصور".

في المستشفى، حيث كان يطلّ على البراكين والأرخبيلات، أغمض عينيه للمرّة الأخيرة، وزوجته اليابانيّة تمسك بيده. همس فيشر بكلام غير مفهوم عن محبّة النّاس، ثم أغمض عينيه، دون أن يرى نيويورك من جديد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها