الخميس 2024/08/22

آخر تحديث: 14:56 (بيروت)

"اطلال رأس بيروت" لمحمد الحجيري...في بطن المدينة ونمائمها

الخميس 2024/08/22
"اطلال رأس بيروت" لمحمد الحجيري...في بطن المدينة ونمائمها
المودكا بريشة امين الباشا
increase حجم الخط decrease
يشرِّح محمد الحجيري المدينة غائراً على جوفها وأمعائها، محلّلاً ومشخّصاً سيرورتها شيئاً فشيئاً إلى الزوال والإمِّحاء، أقلّه معنوياً. فبطله سمير عوّاد، حضر من ريفه لكي يعيش "في بطن المدينة وأمعائها وروائحها السفليّة ونمائمها؟". ومن حيث يدري أو لا يدري اتّخذ هذا البطل من مقاهي بيروت التي تردّد عليها، شرفة يطلّ منها على المدينة، يتأمّل حركتها ويراقب ناسها مرافقاً إياهم في حياتهم اليوميّة بما فيها من روتين أو من حالات طارئة ومتحوّلة.

ذاكرة الروائح
في روايته الصادرة مؤخّراً "أطلال راس بيروت"، ينطلق محمد الحجيري مع بطله سمير عوّاد من الروائح، من رائحة الغوافة، بعدما أسمعته يوماً سارة عوّاد، التي له معها قصة غرام غير مكتملة، أن في رائحة الغوافة شيئاً من "العشق والباه". ويصدمه قولها هذا ويحيّره، كونه يعلم أنها لم تعشق ولم تمارس الجنس، فكيف أدركت ذلك؟ ويروح يفتش عن معنى للروائح ودورها، "فالروائح تروي معنى الأشياء، بل هي تحضر في ذاته كرائحة" ولذلك فإنّ "ما كان يربكه كثيراً، هو كيف سيكتب ذاكرة الرائحة".

شوارع ومقاهٍ
لكن الرواية في الحقيقة هي رواية المكان، ومن هذه النقطة ينطلق البطل سمير عواد، الساعي في شوارع بيروت ومقاهيها إلى الانخراط في عالم الفكر والأدب والصحافة، ينطلق إلى استعادة قصّة علاقته بسارة عواد اختصاصية الغرافيك ديزاين، والتي تتّكل عليه ليساعدها، إن في دراستها الجامعية أم في تدرّجها في مكاتب الصحف التي كانت تسعى إلى العمل فيها. وإن تكن في الرواية أسماء كثيرة مؤثّرة في مسار هذه العلاقة، فإنّ سمير وسارة هما الشخصيّتان الرئيستان التي تدور حولهما الأحداث.

من العام فالخاص فالعام
وفي بناء روايته، اعتمد الحجيري حركة دائريّة التفافيّة، من العام إلى الخاص فإلى العام. يصوّر لنا بطله وحيداً وشبه مشرّد في شارع الغرباء (بما تعنيه كلمة غرباء) أو شارع الحمرا في بيروت، ومن خلاله يرتسم أمام القارئ شيئاً فشيئاً هذا القسم من المدينة الذي لعب في مرحلة ما قبل الحرب اللبنانيّة (الستينات والسبعينات) دوراً مهماً في بناء وبعث الثقافة اللبنانيّة على أيدي شخصيات شهيرة ولامعة، ومؤسّسات صحافّية وثقافيّة أغنت المدينة بما قدّمته إليها وعنها في تلك المرحلة. وكغيره من الطامحين إلى لعب دورٍ ما في هذا المجال، يسعى سمير إلى تأمين حيّز له فيه، يدخل من خلال ذلك العالم أو يعبر منه إلى ما كان يطمح إليه المريدون في ذلك الوقت. تلك هي الأحلام التي راودت الكثير من شبيبة تلك الأيام، الذين تهافتوا إلى المقاهي الثقافية، ليروا المشاهير أو يتعرّفوا بهم، وليشكّلوا أو ينتموا إلى حلقة من تلك الحلقات الفاعلة في المجال. ومن أجل هذا عاش سمير فترة، شبه مشرّد، وفي حالة عوز قبل أن يتوظّف، ولذلك يخشى على نفسه، هو المصمّم على عدم العودة إلى ريفه، أن يتحوّل شريد شوارع، مثل "علي بلس" الذي كان يتأمّله من وراء واجهة المقهى، "ذلك أنّ المُدُن لا تحمي المشاعر ولا تحرس العواطف".

تاريخ من الأسماء
وفي تصويره حياة بطله، يعود بنا الحجيري إلى ناس تلك المرحلة فيسمّيهم بأسمائهم الفعلية، وهم كثُرٌ، ويجول بنا على المقاهي والمطاعم واصفاً وراوياً ومحللاّ، فتتبدّى لنا المدينة في حلتها الزاهية التي ارتدتها في تلك المرحلة، كما في حياة الشريحة الدنيا من أهل المنطقة، الوافدين إليها لا أحد يعلم من أين، والعائشين فيها مشرّدين بشخصيّات مميَّزة لافتة، تشكل معلماً من معالمها، قبل أن تغيب، بالرحيل أو بالموت (المشرّد علي بلس، أبو علي الصرّاف الجوال، جوان محمد بائع الصحف، الرسام شمس).

لكن اللافت هو أسماء الشعراء والأدباء والصحافييّن المذكورين صراحة، وضّاح شرارة، بسام حجار، الياس الخوري، عصام محفوظ، محمد العبد الله، نزيه خاطر، عباس بيضون، موسى وهبة... وغيرهم كثر، وكلّهم شكّلوا بشكلٍ أو بآخر واجهة بيروت الأدبيّة والصحافيّة وما زالت أسماؤهم، الأحياء منهم والراحلين، تتردّد حتى على مسامع مَنْ يعرفهم ومَنْ لا يعرفهم من الأجيال المتأخّرة. كما ذكر الروائيّ أسماء سياسيّين مخضرمين كان لهم دورهم، مثل وليد جنبلاط، وحسن نصر الله وفادي أبي اللمع...

لكن هذه الأسماء، يذكرها الحجيري كأنّما من باب التذكير فقط، إذ لا يعطيها أي دور في مسار الرواية وحبكتها. كأنها فقط لافتات أو آرمات مضيئة في ذلك الفضاء الثرّ المتولّي، وقد انطفأ اليوم كثيرون منهم في المكان، لكن ليس في الذاكرة.

أقلام وأوهام
هذه الأجواء هي التي طمح سمير، ومعه سارة، إلى العيش فيها وتحقيق ذاته عبر ما حاول اكتنازه من ثقافة ومعرفة سعى إليهما بمطالعات مكثّفة ومحاولات اختلاط، في المقاهي على الأخصّ، حاملاً معه في حقيبته الجلديّة "الجريدة أو قصاصات صحفية ومجموعة أوراق وأقلام وأوهام". أوهام!؟

الوهم الكبير الواضح هو هذا الحبّ الذي عاشه في علاقته بسارة عوّاد. من هذه الأجواء العامة، تنحسر الحكاية لتنحصر شيئاً فشيئاً بسمير وسارة، والمحيط الضيق "البعيد" نسبياً من عقدة الرواية. هذه العلاقة القائمة بين الطرفين، لكن الحبّ فيها يبقى من طرف واحد، طرف سمير الساعي إلى الارتباط بها، فيما هي تولي حبّها وجهة أخرى، وجهة ملحم، الشخصية التقليديّة في الرواية، بعدما ارتاحت من ملاحقة ابن خالتها لها. وفيما يبدو سمير في حالة ضيق من هذا الوضع، من دون أن يقع في اليأس، تبدو سارة واقعة في حُبَّين اثنين، وهنا يسوقنا الحجيري وراء تساؤلات عن إمكانية حبّ المرأة رجلين في آنٍ معاً.

في ظلّ هذا التجاذب تتّخذ العلاقة مسارات متصاعدة نحو الانفصال، وينتهي كلّ منهما إلى زواج مصلحة، أو أمر واقع (سمير)، أو زواج حبّ موهوم (سارة من ملحم) لم يدم سوى أيام قليلة عند اكتشافها خيانة ملحم الدائمة لها، وينتهي بالطلاق لتتزوّج مرة أخرى زواجاً تقليدياً مصيره الفشل واليأس أيضاً. وفي هذه الأجواء تتجدّد العلاقة بشكلٍ ما بين الحبيبين لكن ليس إلى أمدٍ طويل.

الأمكنة الزائلة
ولا يلبث الكاتب أن يعود بنا إلى الشارع، إلى المقاهي التي تحوّلت مبانيها مراكز تجارية كبرى أو علَتها واجهات المصارف. إنه غول العولمة والنوازع المادّية التي طغت على المدينة موديةً بناسها الذين وجدوا أنفسهم فيها، روّادها هؤلاء الذين لا يجدون معنى لحياتهم إلا فيها: "وكان روّاد المقهى والحانة عُصاةً على أن يكونوا فرديّين". وكما هم حلّوا في المدينة فقد حلّت فيهم مدينتهم، صاروا يشبهونها وتشبههم، "هاروت كان وجه المدينة، كان بيروت، علي بلس كان يشبه بيروت، سارة أيضاً تشبه بيروت، كما المقهى يُشبِه بيروت". وفي نوع من رثاء، يصوّر الكاتب تشرّد رواد المقهى الذي أُقفِل، وقد ظلّوا أوفياء له حتى اللحظة الأخيرة، وهو على لسان البطل سمير يقول إنّ "خلف إقفاله موت مدينة كاملة، وطبقات من الزمن الآفل...". ويمكننا القول إنّ مغزى الرواية يكمن في هاتين العبارتين. 

هؤلاء، مريدو بيروت والمتشبّهون بها، كما سمير وسارة، يبدو أن المدينة لفظتهم كأنهم دخلاء. علماً أنّ البعض غادرها بملء إرادته إلى عالمٍ أضيق. فمن الحيّز الواسع المختلط المنفتح على الكلّ وللكلّ، من الانتماء الأرحب والأغنى عاد البعض إلى الانتماء الإحادي، إلى التقوقع ضمن الطائفة وإلى الفكرة الجهاديّة المنغلقة. كأنّ المدينة الرحبة التي فتحت صدرها للجميع، ظلّت عصيّة على البعض، بفكرها وخيالها وأجوائها. وطبعاً كان للحروب والانقسامات والميليشيات دور في ذلك، لكن اللافت هو أنّ الكاتب لم يغرق أبداً في رواية الحرب...

رواية البياض أو بياض الراوية
تنتظر سارة من سمير، الرواية التي سيكتبها، لكن سمير يختفي وكل ما يصلها منه ورقة بيضاء. رواية تورّط سمير في كتابتها، وهو لم يعد يعرف كيف ينهيها، كما أخبرها، وهي لم تكن تعلم أنّها "تتضمن سيرتها أو ملامح من حياتها وجزءاً كبيراً عن الأمكنة الزائلة والمتلاشية في بيروت..."، هذه الرواية الواعدة بكلّ هذه الموضوعات خرجت بصفحة بيضاء وحسب. وللقارئ أن يتخيّل ما يعنيه هذا البياض!

خيال ومشهديّة
صاغ الحجيري روايته بصيغة الغائب على لسان الراوي دائم الحضور، وحول الحركة الدائرية المذكورة أقام بنية سرديّة خطّية مستقيمة تنساق وراء الأحداث المروية إلى نهاياتها المرسومة، مدعومة من هنا وهناك باستعادات أو استباقات سريعة، وبلوحات مكانيّة أو بشريّة مرسومة بعين رائية وهادفة، مشهديّة في الكثير من الأحيان (سينمائيّة)، وذلك بأسلوب مدروس ومتقَن، تخلّلته من حين إلى آخر لفتات خيالية أو تعبيريّة لافتة ومعبّرة: عن رواد المقهى من أصحاب القلم مثلاً "يعيشون نوعاً من الساموراي البطيء"، وفي رتابة حياة المقهى "الضجر غبار على القناني"، والأوهام في طيات "قصاصات صحافية ومجموعة أوراق وأقلام وأوهام"، "مبنى قديم يحمل بقايا المدينة"، وعن علي بلس "أحياناً يقف مسنوداً كأنّه معلّق على صليب الحياة، وصليب المجتمع، وصليب التيه"، وبعد موته يتأمل صورته ميتاً: "ما كان سمير يحسب أنّه سيشاهد الصورة، الصورة تقتل"، أو عن سارة التي نجت من الانتحار "بيدها رمت الموت في البحر"...

يحكي محمد الحجيري قصّة راس بيروت، قلب المدينة الحضاري والثقافي في مرحلة من تاريخ لبنان. يحكيها بحلوها ومرّها، وكأنّ الرواية التي عجز بطله سمير عوّاد عن كتابتها، كتبها لنا هو بنفسه. كأنه أراد بذلك أن يثبت في الذاكرة كلّ ما يوحي به ما تبقّى من "أطلال راس بيروت". 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها