الثلاثاء 2024/08/13

آخر تحديث: 12:21 (بيروت)

عزة طويل إذ تلوّن سواد العالم

الثلاثاء 2024/08/13
عزة طويل إذ تلوّن سواد العالم
"ما أظنّ أديم الأرض إلا من هذه الأجساد"
increase حجم الخط decrease
منذ الفصل الأوّل الواقع في ثلاثة أسطر، تنذر عزّة طويل قارئها بمفاعيل الكابوس الذي سيعيشه مع الراوية-بطلتها على مدى صفحات روايتها "النوفيلا" الـ111. تنبّهه إلى طنينٍ ما سيضرب رأسه جراء ضرب الطبول منذ البداية التي ستكون "عنيفة شيئاً ما".

كلام قليل ينبئ بقساوة ما ستطالع القارئ جراء صِدامات حتميّة مع الموت. رواية "لا شيء أسود بالكامل"(*) هي وقفة واعية أمام الموت ومظاهره، تتأمّل فيه الكاتبة، على لسان الراوية، بطلة الرواية، بعد ابتعاده عنها، ولنقل مؤقتاً، في الزمان، حين تهدأ الانفعالات الأولى وتزول آثار الصدمة فيصبح بإمكان الانسان البالغ، في مرحلة نضوجه، محاولة فهمه والعمل على تقبّله.

تحويم فوق الموت المحوِّم

تبدو الراوية بجناحَيْن متوهَّمين تحلم بأن ينبتا لها، تبدو محوّمّة فوق الموت وحوله هو المحوّم أبداً حولها طوال الرواية، أو طوال أحداث حياتها. فهي منذ البداية مطوَّقة به عبر "الفقد"، فقد الأقارب أو المعارف، وفقد الأجنّة، مشاريع مواليد غالية، تخسرها بالإجهاض... الموت المبكِّر. هي نفسها أجهضت وعانت، وهي نفسها جاءت الحياة بالخطأ، يوم عجزت أمّها عن إجهاضها لأسباب صحّية، بعدما أجهضت مرّات من قبل.

إذن يلاحق الموت الراوية التي تلاحقه بدورها... منذ البدايات... ولكانت هي في عداد الأموات لو لم تضطر أمّها إلى الإبقاء عليها. وكأنها لم تبقَ إلا لتواكب مسار "الفقدان" على مدى سنوات عمرها، ولتطرح مسألة الموت نفسها عليها بكل ثقلها، ولتنطلق منها إلى التأمّل في الحياة ليس كمسألة وجود حيّ وحسب، بل كشبكة علاقات تربط بين الفرد والناس حوله، من أب وأم وجدّ وجدّة وحبيب وصديق، هذه العلاقات التي تجعل الغياب بالموت مؤلماً على الفرد بشكلٍ أو بآخر.

مِن هؤلاء الشخصيّات هم أبطال الرواية. تحكي قصصهم وقصصها معهم المتعلّقة إلى حدٍّ بعيد بالموت حصراً. من الأجنّة المُجهَضة إلى حمويها، إلى جدّها وجدّتها إلى والدها وأمها، وإلى الحبيب والصديقة، هؤلاء الأشخاص- الشخصيات الذين جعلوا حياتها مشروطة بوجودهم وبغيابهم. وكلّ ميتة من هذه الميتات تستدعي من الراوية وقفة أمام الموت ومآل الإنسان بعده، المآل البسيط الذي لا تحاول عزّة طويل لا تفسيره ولا فلسفته، وأقصى ما وقفت عنده هو المقابر التي تحتضن رفات العباد، والتي، بعكس ما هي عليه في القرى، طارت أسعارها في العاصمة (مقابر الباشورة) بفعل اكتظاظها بالأموات، حتى لتذكّرنا نظرتها بموقف أبي العلاء "ما أظنّ أديم الأرض إلا من هذه الأجساد" و"ربّ لحدٍ قد صار لحداً مراراً...".

شخصيّات... وأنواع متعدّدة من الموت

أمّا الأهم عند الكاتبة فهو ما يستدعيه هذا الموت من عودة إلى ماضي هؤلاء الناس والحيوات التي عاشوها بحلوها ومرّها والعلاقات التي ربطتها بهم وساعدت على تشكيل نظرتها إلى الحياة والموت. في هذا المجال، أعني الحيوات، تتوسَّع الكاتبة في مفهوم الموت، الذي يتعدّى في نظرها الموت الجسديّ، بتعطّل الوظائف العضوية، إلى الموت المعنويّ في مجرى الحياة مع انطفاء الغاية من الوجود والعلاقات الإنسانيّة، وتعطّل وظائف بعض أعضاء الإنسان أثناء حياته. أليس أنّ أمال، حماتها، قد عاشت ميّتة مع زوجها بعدما انقطعت العلاقة الجسديّة بينهما وواصلت عيشها معه أكثر من عشرين عاماً من دون أن تمارس الجنس معه؟ "أنا امرأة ميتة، لقد ماتت أنوثتي ودفنتها في حمص". وأيضاً مع أمّها التي ضحّت بالبقاء مع والدها من أجل ابنتيها "ألهذا تقولين إنّك لم تكوني حيّة؟ كيف تقبلين بالموت في سبيل الآخرين؟". وكذلك الأمر مع حبيبها الذي فقد قدراته الجنسيّة، ولم تنجح محاولاتها الحثيثة في إعادة إحيائها فيه، ليدعوها إلى التسليم بحقيقة موته جزئيّاً "ألَم أخبركِ أنْ ليس للموت شكلٌ واحد فقط؟". وفي السياق نفسه تطالعنا في الرواية، إضافة إلى الموت الطبيعي الكلّي، ميتات معنوية مثل الموت الموهوم المتخيّل والمعاش من خوف دائم منه، والموت المعنوي والموت الوظيفي إذا جاز التعبير.

الخوف والتألّم منه في رأس الإنسان

وهنا نصل على ما اعتقد إلى جوهر الفكرة التي تدور حولها الرواية. لقد زرعت عزّة طويل في رأس بطلتها الراوية "هاجس" الموت والخوف من حدوثه، من لحظة وقوعه. وتلك هي الفكرة التي شغلت وما تزال الكثير من المفكّرين الذين يرون أنّ ألَمَ الموت هو في الحقيقة ما قبل وليس ما بعد، أي أن القلق والخوف وما ينتج منهما من ألم ليست أموراً "خارجيّة"، بل هي "داخليّة" تكمن كلها في رأس الانسان الذي منذ أن يَعي حقيقة الموت يعيش معه بشكل دائم، ليس مع خوفه من موته هو نفسه وحسب، بل من موت الأحبّة حوله من أهل أو أبناء، والتي تتحوّل عند الكثير من الناس حالةً مَرَضيّة، وتلك هي الفكرة التي تحاول عزة طويل معالجتها والتغلّب عليها. ومن هنا ضرورة وأهمّية الكلام على الموت صراحة من أجل تهدئة المخاوف ولمساعدتنا على تقدير حياتنا أكثر فأكثر.

تلوين الحياة... وقرب الموتى

الطنين والقرع (في الرأس) الذي حذرتنا منه في أوّل الرواية حاولت أن تخفّف من وقعه على مسار الصفحات. سواء في الألوان التي نشرتها في بعض مقاطعها الوصفية، أو التي أرادت لابنتها أن تلون الأوراق والحياة بها عندما تركت "لطفلتها مساحة للرسم على أوراق كبيرة زرقاء وصفراء، ومدّتها بكلّ الألوان لتنشرها على الأوراق وعلى الدنيا من حولها". وبتلك الروحية ختمت روايتها مع اكتشافها سبب اختيار والدها بناء المنزل في قريتهم قبالة المقابر، "اختار أبوها أن يبقى قربها وقرب اختها. بنى لهما منزلاً مطلاً عليه هو، يحضنهما فيه في حياته ويبقيه قريباً منهما في مماته". وعندها، في ذلك الربيع، جاءها "إثباتٌ جديد على أنّ الموت ليس مرادفاً للصقيع. إثباتٌ جديد على أنّ الأموات لا يرحلون". وبذلك جعلت الكاتبة بطلتها-الراوية تتآلف مع فكرة الموت، وتشفى من تلك الحالة المرضيّة إن كانت هناك حالة مرضيّة. وإن كانت هذه مرحلة محدودة من "رحلة مع الحياة والموت، ومواجهة معهما"، عاشتها البطلة، فإن الكاتبة توقّفت عند هذه المحطة، تاركة الفضاء مفتوحاً أمام مآلات مجهولة لحياة ستستمرّ متخفّفة من هواجس الموت ومتآلفة معه، وبذلك تخلع عزّة طويل اللون الأسود عن الموت لأنّه في الحياة "لا شيء أسود بالكامل".

البنية المتقاطعة والفنّ الخفيّ

كل ذلك صاغته الكاتبة في بنية روائية مُتْقنة ومدروسة قائمة على مقاطعة الأخبار المُلَمْلَمة من ذاكرة متقّدة وخيال قويّ "لاقط وحافظ". شذرات أو نثار من حيوات الشخصيّات، الراوية ومَنْ حولها، تتجمّع شيئاً فشيئاً لتتوضّح لوحةً أو فكرةً مكتملة في ذهن الراوية وأمام القارئ، ممّا جعل الرواية تؤّدي وظيفتها الأساسيّة المرجوة من تشويق ممتع في عملية إيصال الفكرة الأساسيّة المطروحة.

وما ساعد الكاتبة على ذلك هو أسلوبها المُتقَن من غير ادّعاء. فهي عرفت كيف تخفّف من التحليل والتفسير، وعلى الأخص من التفجّع أمام حوادث الموت. هي لم تّتخذ من الموت ذريعة لتفجير عاطفة كامنة بشكلٍ مصطنع، ولا استفاضت في التحليل "النفسيّ" أو "الفلسفي"، بل تركت للخبر المسرود بشكل مدروس، وللانطباعات المعبَّر عنها بشكلٍ مقتضَب، وللتصريح المباشر، أحياناً، أو للخيال أحياناً أخرى، إنّما من دون جموح، أن توصل الفكرة والحالة في أقلّ قدرٍ ممكن من الكلام. وفي ذلك تكمن القدرة الفنّية عند طويل، أعني تلك العناية البارعة بالأسلوب من دون أن تجعل القارئ يحسّ بأنها تبذل كلّ هذه العناية، أي من دون أن تبسط وتستعرض قدراتها الفنّية والأسلوبية. وبذلك نجد تطبيقاً لما نصح به إريك إيمانويل شميدت، من ضرورة العناية القصوى بالتعبير، وليس الاستسهال كما يرى بعض مدّعي الحداثة، ولا المبالغة كما نجد عند مستعرضي قدراتهم. فالعمل المتقن يعبّر عن نفسه ويخفي ما وراءه من جهد مبذول لإخراجه بشكله الفنّي الجميل، فبحسب شميدت "الفنّ يخبّئ الفنّ. والاشتغال يُخفي الاشتغال" L’art cache l’art. Le travail dissimule le travail.

هذا ما أتقنته طويل وعرفت كيف تصوغه موزّعة فيه، عبر السرد، نفحاتها الشاعرية من دون إثقال، وتهكّماتها المضحكة أو الناقدة أو السوداء من دون ابتذال.

في روايتها القصيرة هذه، والأولى لها، لا شيء أسود بالكامل، طرقت عزّة طويل موضوعاً وجودياً شغل البشريّة منذ فجرها، في بنية فنيّة وأسلوب سرديّ متقَن حاولت فيه أن تشقّ طريقاً جديداً لها في عالم الفنّ الروائيّ. ولا إخالها، وهي الآتية من عالم الكتب والنشر، إلا واعية ومدركة للمسار الذي تسلكه، وستعرف حتماً كيف توجّه خطاها لتأتينا بكلّ جديد ومميَّز.
______________________

(*) طويل، عزّة، لا شيء أسود بالكامل، رواية قصيرة (نوفيلا)، دار نوفل، بيروت، 2024، 111 صفحة.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها