لا تتأخّر دلال معوض، في كتابها "
خسارتها الكاملة"[1] الصادر باللغة الإنكليزّية في التعبير عن إحساسها بالتقصير كونها لم تتنبّه أو تدرك حجم الكارثة في لحظتها، أو لأنّه لم تُكلَّف بتغطية الخبر كصحافية، وبالتالي لم تتمكّن من النزول على الأرض ليلة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس العام 2020. وليس هذا فقط، بل إنّ هذا الإحساس بالتقصير ولّد عندها إحساساً بالذنب ما يزال يرافقها حتى اليوم، وهو ما عبرت عنه في نهاية مقدّمتها الطويلة بصراحة جارحة: "أشعر أنّني، كصحافيّة، فشلت. وكذلك كلبنانيّة أشعر أنني فشلت. وكإنسان أحسّ بالذنب لمجرّد كوني ما أزال على قيد الحياة". ولذلك أرادت في روايتها أخبار مآسي النساء على الأخصّ، لا بل حصراً، في تلك الليلة، أرادت أن تعالج هذا الإحساس، هذه الصدمة النفسيّة، علّها تجد السلام الذي افتقدته في نفسها مذّاك إذا أدّت ما اعتبرته واجباً عليها: "أنا كصحافيّة أشعر بأنّني أدين لكل هؤلاء الناس، كما لوطني، بسرد هذه الوقائع".
تتخلّى دلال معوض إذن، منذ البداية، عن حياديتها المُفترَضة كصحافيّة، لتنقل الأخبار من منظور ذاتيّ وجدانيّ متألِّم، مشاركةً الضحايا أو ذويهم، مآسيهم التي ما تزال تتفاعل حتى اليوم بانعكاساتها وتداعياتها من كلّ النواحي، الصحّية والحياتيّة والقانونيّة والإنسانيّة. وقد أرادت معوض أن تحصر أخبارها بـ"المرأة" عموماً، حتّى غير اللبنانيّة، لِما تعانيه من ظلم وإجحاف حتّى في أحلك ظروف المأساة التي تعيشها، كأنّ الظلم اللاحق بها من جريمة المرفأ جاء تتويجاً صارخاً للتمييز والإهمال التاريخيّين في حقّ النساء عموماً، ولاحتقار حقوقهنّ على كلّ الصعد، في الزواج والأولاد والميراث وغيرها...
أخبار ودموع
ما بين الانفجار وصدور الكتاب ثلاث سنوات تقريباً عملت معوّض في خلالها على مقابلة عددٍ من النساء اللواتي أُصِبن ليلة الكارثة أو فُجعنَ بموت زوج أو أو ابن أو ابنة أو صديقة. وفي جلسات متكرّرة سمعت منهنّ ظروف ما قبل تلك الليلة المشؤومة، وتفاصيل ما عِشْنَه فيها وانعكاسات المصيبة عليهنّ حتى ما بعدها. وفي هذه الجلسات الطويلة نرى معوّض تنصت بصمت إلى أخبارهنّ، وتلتقط أدّق الانفعالات في الوجوه والحركات، وتشاركهنّ الدّمع كلّما فقدْنَ السيطرة وغلبهنّ البكاء. كأنّها فعلاً أردات أن تحمل طوعاً معهنّ جزءاً من وزر مصائبهنّ الثقيل، أو لكأنّها سعت إلى التكفير إراديّاً عن ذلك الذنب الذي لم تقترفه لكنها أحسّت به كما ذكرت في مقدمتها، أو أنّها حتى أخرجت ما في نفسها من مكبوتات ضاغطة حملتها معها منذ صغرها، منذ أن اكتشفت معاناة عائليّة قديمة ومزمنة، معاناة جدّتها لأبيها التي قُتِل زوجها في أحداث داخليّة، وأمضت حياتها مترمِّلة عاضّة على جرحها، منكبّة على تربية وتعليم ولديها (والد معوض وعمّها) بعيداً من المشاكل، وما زيد في معاناتها أن القاتل بالكاد حوسِب ودخل السجن من ضمن التسويات التي تجري تقليديّاً في هذا البلد.
التفاصيل الخانقة وانقطاع الأنفاس
إنّ المتابع لأخبار انفجار المرفأ، ولا إخال أحداً لم يتابع على مدى تفاصيل ما جرى للناس ليلتها، قد لا يجد جديداً في أخبار هؤلاء النسوة اللواتي انتشرت أخبارهنّ على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، من الصبية عنصر الإطفائية التي بدّلت دوامها مع زميلتها وأخذت مكانها لتتركها تعود إلى بيتها خارج بيروت، وعندما وقع الحريق لبّت النداء لتذهب ضحية الإنفجار، إلى الممرّضة التي صُورت في الصحف وكل الإعلام وهي تحمل المواليد الخدج الثلاثة، بعد أن دمّر المستشفى حيث تعمل، وهي تركض بهم في الشارع مفتّشة وطالبة أغطية ووسائل تدفئة بشكلٍ أساسيّ، إلى قصة المرأة التي طلقها زوجها وأخذ ولدها وهي ما تزال في حال غيبوبة بعد إصابتها في الانفجار... إلى غيرها من القصص. ولا أعتقد أن معوض غافلة عن ذلك، لكنّ أهمّية ما روته عنهنّ جميعاً، تكمن في التفاصيل الدقيقة ومصادفات ما قبل الانفجار، التي أوصلت كلّ ضحيّة إلى حيث قضت نحبها. ثمّ في وصفها الدقيق لحالة الهلع والضياع والتفتيش عن معونة لم تتوفّر، أو عن مشفى قريب، أو الاضطرار إلى نقل الجريح إلى مستشفيات بعيدة في الجبال وخارج بيروت، وفي معظم الأحيان لم يسلم. وهنا نجحت الكاتبة في السرد المشوّق والبالغ التأثير، ونحن نرى كل هؤلاء الناس يدورون في حلقة مفرغة، أو يسيرون ويركضون بين الركام والدمار، أو يستوقفون أي آلية كانت لتنقل جريحهم إلى مستشفى لم يعد موجوداً، أو يدخلون غرفة الطوارئ في المستشفى ليجدوا أمامهم القتلى حتى من بين العاملين فيها. وهم في كلّ حال لم يعوا بعد ما جرى وهول ما جرى. وكلّ ذلك بتفاصيل وصفية دقيقة، تطول معها عملية السّرد وتتباطأ حركته حتى يصبح الحدث خانقاً وضاغطاً ممّا يجعل القارئ يعيش معه صدمات تلك الليلة ويستشعر هول ما عاشه الناس الذين أُسقِط في أيديهم وهم يفتّشون عن باب خلاص حيث أوصدت كلّ الأبواب في وجوههم بالدمار والخراب. وإذا ما نظرنا مع الكاتبة من هذه الزاوية لا بدّ أن نتبيّن مرّة أخرى ضخامة الحدث وحجم المأساة وفداحة الخسائر، وفي ذلك هي نجحت بالتأكيد في استدعائنا حكماً إلى مشاركة ذوي الضحايا مأساتهم كما شاركت هي نفسها.
محطّات... فسحات
ولأنّ الكاتبة استشعرت حجم هذا الضغط، وكما كانت تفعل مع محدّثاتها من النساء عندما يلُذْنَ بالصمت أثناء الكلام، فتترك لهنّ ما شئْنَ من الوقت لاعادة استجماع القدرة على الكلام، عملت على إعطاء القارئ فسحات لالتقاط أنفاسه عبر محطّات في الكتاب تتمثّل فيما أدرجته بالتناوب من فصول حول بنية الاقتصاد اللبناني والأسباب البعيدة لانهياره، أو عن قيام دولة لبنان الكبير والمعوّقات التي حالت دون إنجاز بناء هذه الدولة كما يجب، أو عن مجرى العدالة المنقوصة لا بل المعدومة تقريباً منذ ما قبل الحرب اللبنانيّة، وذلك في غياب المحاسبة وفي ظلّ الإفلات من العقاب وصولاً إلى عرقلة التّحقيق في جريمة المرفأ، التي اعتُبِرت جريمة العصر، بشكلٍ علنيّ وفاضح، أو عبر تقديم مرافعة دفاعاً عن حقوق العاملات الأجنبيّات اللواتي يعامَلْن بدونية وعنصرية، ومنهن ضحايا في الانفجار بشكلٍ أو بآخر. أو بتحليل أسباب "ثورة تشرين" المُجهضَة. وهذه أيضاً موضوعات معروفة ويتداول اللبنانيّون في شأنها كلّ يوم. لكن هناك أمراً آخر أرادته معوض من عرض هذه الفصول، إضافة إلى ما ذكرنا من تخفيف الضغط عن القارئ. فهي كما تذكر في خاتمة الكتاب توخّت بشكلٍ أساسيّ التوجه إلى الغرب، وإيصال قضيّة الوطن ومأساته في انفجار المرفأ إلى العالم كلّه، وربّما هذا هو أيضاً أحد أسباب وضع الكتاب باللغة الانكليزيّة.
ما بين الانبعاث والنجاة
كلّ ذلك يدفعنا إلى التوقّف عند نقطتين مهمّتين في الكتاب، الأولى نستخلصها بالتحليل والاستنتاج، وهو أنّ الكاتبة ابتعدت كثيراً عن أسلوب التقرير الصحافي، فهي كما رأينا ممعنة في الذاتيّة في تعبيرها الصريح عن مشاعرها وأحاسيسها. ولا هي تقوم بعمليّة توثيقٍ تاريخيّة. فالتأريخ يسجّل الأحداث بشكلٍ عام ومن فوق، فيما الكاتبة هنا تكتب التاريخ "من تحت"، من عند الناس العاديّين، الضحايا وذويهم وما عاشوه من معاناة وعذاب وقهر وظلم، وهذا ما يقرّب كتابها من الأعمال الروائيّة، حيث قصّة كلّ فردٍ فيه تصلح أن تكون موضوع عملٍ فنّي مستقلّ.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها