الأحد 2024/07/14

آخر تحديث: 08:20 (بيروت)

"منطقة حرجة".. إيران التي لا نعرفها

الأحد 2024/07/14
"منطقة حرجة".. إيران التي لا نعرفها
يروي قصة ليلة في حياة تاجر مخدرات يقود سيارته في شوارع طهران
increase حجم الخط decrease

 

جالت كاميرات السينما في شوارع طهران كما أظهرت لنا العديد من الأفلام الإيرانية - لدى صانعي الأفلام الإيرانيين، لأسباب مختلفة، ميلاً خاصاً لأفلام الطريق بجميع أنواعها - ولكن ليس كما هو الحال في "منطقة حرجة"(*) للمخرج الإيراني علي أحمد زاده، وهو فيلم، في اقتراحه السياسي، يترك الكثير من السينما "الناقدة" في ذلك البلد تبدو ساذجة تقريباً. وهذا لا يجعله بالضرورة أفضل من أفلام أساتذة مثل جعفر بناهي أو عباس كيارستمي نفسه - الذين صنعوا روائع تحايلت على الحدود والمحظورات - لكنه نسخة جامحة وخام حقاً من هذا النوع من السينما، فيلم يؤكّد ضرورة تسليط الضوء على جيل جديد من صانعي الأفلام الإيرانيين يدخلون بثقلهم ضد النفاق الاجتماعي والثقافي. وهم يفعلون ذلك من دون الكثير من الصراخ أو شدّ الخطوط تحت السطور.

يركّز فيلم "منطقة حرجة" على تجارب أمير (أمير بوستي)، طوال ليلة من العمل. من خلال لقطات طويلة من داخل سيارته، لا نسمع فيها سوى صوت نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) معطياً توجيهات مختصرة للغاية، يتجوّل الشاب الملتحي البالغ من العمر ثلاثين عاماً حول مدينة طهران، ويبيع المخدرات بشكل أساسي. ليس هذا الشيء الوحيد الذي يفعله - فهو أيضاً يشتري، أو يبحث عن مضيفات طيران يجلبن له البضائع، أو يزور حبيبة سابقة، وما إلى ذلك – ولكن بيع المخدرات نشاطه الرئيسي. بعد أن يلتقط بضاعته يعود إلى منزله - يعيش بمفرده برفقة كلب لديه شهية جنسية ملفتة - ويقسّم بضاعته إلى أحجام وأشكال مختلفة، ويخرج للعمل. هذا، من حيث المبدأ، جوهر القصّة.

يستهلك أمير أيضاً ما يبيعه - فهو يفضّل الحشيش على الماريغوانا - وسيعطينا الفيلم، في أكثر من نقطة، وجهة نظره البعيدة عن المركز (عمل لافت لكاميرا ميلاد موحّدي). لكن أمير رجل هادئ جداً، والحدث الرئيسي يأتي ممن يلتقيهم أو يبيعهم. وبهذا المعنى، فالفيلم يحتوي على الكثير من "تاكسي" باناهي أو "عشرة" كيارستمي، فقط في مساحة حضرية ومناخ يذكّرنا بفيلم "سائق التاكسي" لمارتن سكورسيزي. لكن أمير عكس ترافيس بيكل. في تصرفاته، ولطفه، إذا صحّ التعبير، يملك شيئاً يقرّبه من المتعاطين الكلاسيكيين مثل بطل فيلم "ذا بيغ ليبوسكي" The Big Lebowski للأخوين كوين. وحتى عندما يصبح ما يجري حوله أكثر قتامة، يبدو أن الرجل لا يفقد أعصابه أو ابتسامته المتحجّرة تماماً.

يتيح هذا الشكل من اللقاءات العرضية للمتفرّج فرصة الالتقاء بجيلٍ لا علاقة له بما نراه في السينما الإيرانية عادةً. بدايةً، لا تغطّي أي من النساء هنا رؤوسهن تقريباً، والعديد منهن من زبائنه (وموّرديه أيضاً)، ولهن علاقة بالجنس تبعد سنوات ضوئية عما نشاهده عادةً في الأفلام الإيرانية. ومن بين أولئك اللائي يعبرن بسيارة أمير، أو يشترين منتجاته، هناك عابرات جنسياً وممرضات، أمهات قلقات على أطفالهن مثلما صديقات مكتئبات. أمير، في أعماقه، ليس أفضل حالاً منهن كثيراً. في البداية، نعرف أن صديقته الأخيرة تركته - سنرى الأسباب - والرجل، مهما حاول إخفاء ذلك، لا ينسجم مع وضعه الجديد، وربما مع حياته ككلّ.


أولئك الذين شاهدوا مسلسل High Maintenance – المتمحور حول تاجر يقوم بتوصيل المخدرات، عادةً على دراجة، عبر مدينة بروكلين – سيلاحظون احتواء "منطقة حرجة" بعضاً من الإطار العام. لا يُنظر إلى أمير باعتباره "ملاك موت" بأي حال من الأحوال. كما أنه ليس العكس: فبينما يحتفل جميع عملائه بقدومه كما لو كان مسيحاً مخلّصاً من نوع ما، يوضّح أحمد زاده - في فيلمه الثالث - أن هناك أيضاً أشخاصاً يبالغون في الأمر ولا يقضون وقتاً ممتعاً على الاطلاق. بطريقة ما، ما يُظهره الفيلم جيلاً اتخذ من تعاطي المخدرات وسيلة للهروب من الواقع القاسي والمعقّد، في بلدٍ لا يتمتعون فيه بأي حريات تقريباً.

من بين جميع ركّاب أمير، تحتفظ المرأة التي التقطها في المطار لنفسها بالمشهد الأكثر إثارة للصدمة. أولاً، بسبب طبيعة المفاوضات التي جرت بين الاثنين. ثم بسبب الأسلوب - الصاخب والمدوي، الذي ينتقل من المتعة إلى الاحتفال ومن ثمّ إلى شيء يشبه إلى حدٍّ كبير اليأس - الذي تقود نفسها إليه. هذا المشهد يلخصّ الفيلم بأكمله، بكل متغيّراته، فهو ينجح في أن يكون مضحكاً، عدوانياً، محفوفاً بالمخاطر، ومفرطاً في الوقت نفسه.

الفيلم المصوّر سرّاً، مع ممثلين غير محترفين، وكاميرات مخفية، ومع فصل كل حلقة زمنياً عن الحلقات الأخرى (يمكن مشاهدتها ككل في ليلة واحدة ولكنها مصوّرة على مدى فترة طويلة من الزمن)، قد لا يكون بتلك الدقّة المعتادة في أفلام الأساتذة الإيرانيين القدامى، أو يحتوي على التعقيد السينمائي/ الإنساني لأفلامهم، لكنه يهتز بقوة الصرخة نفسها التي يبدو أن هذه المضيفة تستمدها من أحشائها. إنه فيلم يسعى إلى لفت الانتباه - إلى نفسه وإلى العالم الذي يصوره - وينجح في ذلك.

 

(*) حصد الفيلم جائزة الفهد الذهبي لأفضل فيلم في المسابقة الدولية لمهرجان لوكارنو الأخير.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها