الإثنين 2024/07/29

آخر تحديث: 13:47 (بيروت)

"أطفال غزة": أسئلة السلام الناقصة

الإثنين 2024/07/29
increase حجم الخط decrease
قطاع غزة، 2003. في محيط غزة، ما زالت هناك مستوطنات إسرائيلية، والانتفاضة الثانية مستمرة. نسبة 43% من السكان تقل أعمارهم عن 14 عاماً. هذا ما تقوله البيانات التوضيحية الافتتاحية للفيلم الإيطالي "أطفال غزة - على أمواج الحرية"(*)، التي تسبق العناوين الرئيسة، المترافقة مع دويّ طلقات الرصاص والانفجارات. مسرح الحرب معروف جيداً. محمود (مروان حمدان)، فتى فلسطيني يبلغ من العمر 11 عاماً، يعيش وحيداً في غزة مع والدته الشابة فرح، أرملة شهيد مقاوم، ويساعدها في بيع باقات الزعتر، متنقلاً بين الإنذارات والتفجيرات وحظر التجول، في مدينة مزّقتها الحرب. عدوان لا نهاية له يصيب المدنيين بالمجان. على الشاطئ، الذي يتردّد عليه لتعلّم كيفية ركوب الأمواج، يرى محمود صبياً صغيراً يتسللّ ويعود إلى المستوطنة القريبة القابعة خلف الحواجز الأمنية على الطريق: إنه آلون (ميخائيل فريدل)، الابن الوحيد لزوجَين يهوديَين، ويشاركه شغف ركوب الأمواج.

يرتبط دان (توم ريس هاريس) بالبحر أيضاً، وهو بطل ركوب أمواج سابق، توقّف عن ممارسة رياضته المفضلة بعد إصابته التي جعلته مدمناً على مسكّنات الألم، خصوصاً بعد مقتل شقيقته، الممرضة المتطوعة، جراء قصفٍ إسرائيلي على غزة. بفضله، سيتعلّم الصبيان أساسيات هذه الرياضة، وسيجدون في أوقاتهم المائية الراحة الوحيدة من طحن الأنقاض اليومي، والكفاح من أجل تأمين الضروريات الأساسية، والخطر المستمر للموت تحت هجوم العدو، وفقدان أحد أفراد الأسرة أو الأصدقاء، أو العودة إلى المنزل لمعاينته وقد صار حطاماً. رفاق محمود، الذين يلعبون لعبة الحرب فيما الحرب نفسها تجري أمام عيونهم، يشعرون بالقلق من قربه من آلون، وقد اختار بعضهم بالفعل الانضمام لصفوف المقاومة. لكن محمود وآلون يفكّران بشكل مستقلّ عن خلفياتهما. أطفال محاصرون في سياق لم يختاروه، مجبرون على تنفّس كراهية آبائهم ومخاوفهم، نشأوا في حربٍ يعانون عواقبها من دون أن يفهموا أسبابها بشكل كامل.

هو أول فيلم روائي طويل للوريس لاي، وهو إيطالي حصل على دراسات في الإخراج في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس ومعهد الفيلم الأميركي، وله العديد من الأفلام القصيرة ومقاطع الفيديو الموسيقية، بما في ذلك أغنية "Love is Required" لإليسا، بالمشاركة مع مصممة الأزياء ميلينا كانونيرو الحائزة جائزة أوسكار 4 مرات. الفيلم إنتاج إيطالي بلجيكي، شارك في إنتاجه وتوزيعه طارق بن عمار، وصوِّر في تونس في أيلول/ سبتمبر 2022، بعد صعوبات ليست بالقليلة واجهها الإنتاج للحصول على تأشيرة دخول إلى البلاد للممثلين الصغار، الذين وقع عليهم الاختيار بعد اختبارات تمتّ بين مدن فلسطين المحتلة.

السيناريو من تأليف لاي نفسه وداليا هيمان، مستوحى من رواية تحمل الاسم نفسه، أو بالأحرى، قصة طويلة، لنيكوليتا بورتولوتي. منغمساً في أحد المواسم العديدة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني المعقّد، يأخذ الفيلم، مثل النصّ الأصلي، وجهة نظر الأبطال الشباب. من وجهة نظر أخلاقية -ربما تكون هذه الزاوية الوحيدة الممكنة- بعد معاينة روايات عديدة لأبطال بالغين في مركز الأحداث (من "الجنة الآن" و"الزمن الباقي" و"فالس مع بشير"، وصولاً إلى سينما عاموس غيتاي والأفلام من بطولة هيام عباس) – لاجتراح مَخرج من مأساة مستمرة منذ عقود، أعاد العدوان الإسرائيلي ومن قبله هجوم "طوفان الأقصى" إشعالها من جديد.

بالنسبة للبعض، هذا خيار شجاع وجدير بالثناء، تغذّيه نزعة سِلمية ورغبة في حلول الوئام في منطقة لم تعرفه، الأمر الذي تؤكده رسالة خاصة أرسلها البابا فرانسيس إلى المنتجين، للإشادة بسعيهم ومجهودهم، تظهر في التترات الختمية للفيلم: "هذا الفيلم بأصوات الأطفال الفلسطينيين والإسرائيليين المليئة بالأمل سيكون بمثابة مساهمة عظيمة في التنشئة على الأخوة والصداقة الاجتماعية والسلام".
 

مستخدماً الخط الساحلي كمساحة للراحة والحرية في مواجهة بيئة يمزّقها العنف، كحدٍّ بين الفوضى وأمان اللعب، يخلق المخرج ويستعيد من خلال الماء بُعداً خالداً، سلاماً منشوداً، عبر تسلسلات بصرية لافتة، مغمورة في الضوء الساطع المتخللّ أمواج البحر. من خلال الابتعاد بشكل حاسم عن رواية بورتولوتي، التي تركّز على العلاقة بين راكب أمواج أكثر نضجاً والبطلين، يقللّ الفيلم من الخط السردي لـ"دروس" ركوب الأمواج لإفساح المجال للعديد من اختراعات السيناريو الأخرى، المتعلّق معظمها بالحيز الحيوي واليومي لمحمود، بينما يبقى آلون في الخلفية. على سبيل المثال، من خلال وساطة التاجر/المهرّب أشرف، يدخل محمود وصديقه جميل إلى أسرار الأنفاق تحت الأرض التي تسمح لغزة بالبقاء على قيد الحياة. ومن خلال محمود أيضاً، يدرك المتفرّج شكّ جميل في القرب بين محمود وآلون واغتراب رفيقه عبّود، الذي "يخدّره" الكبار ويدفعونه إلى مهمة فدائية. نراه مرة أخرى في مشهد حلمي مليء بالمؤثرات الخاصة، كما نرى أيضاً صديقة أخرى لمحمود، هاميلة، في رقصة تمثل حلم التحرّر من الصراع.

الصور والكادرات ذات التعرُّض المفرط لشين سيغلر (في ظهوره الأول أيضاً)، والاستخدام المتكرّر للحركة البطيئة، وتقلُّب العدسة بزاوية 180 درجة، والتناوب بين الدبلجة الإيطالية واللغة الأصلية، والموسيقى التصويرية الحالمة لنيكولا بيوفاني وأغنية "تعالى أحلم معي" لسارة بن عمّار؛ كلها عناصر تنقل الفيلم إلى بُعد ميتافيزيقي، وجمالي أحياناً، يصعب التوفيق بينه وبين قسوة بعض المشاهد الواقعية المفرطة (مثل انفجار عنف أعمى في الشوارع، حيث يشهد محمود وفاة صبي في مثل عمره)، وله تأثير إضافي يتمثّل في صرف انتباه المشاهد عن الصداقة المزدهرة بين محمود وآلون، الطريق الثالث الذي يقترحه الفيلم مقابل الإزالة الكاملة للآخر التي يسعى إليها الطرفان المتعارضان، المساحة المأمولة حتى تتاح فرصة تجاوز التحيّزات المتبادلة، لمراجعة المرء نفسه والتراجع بضع خطوات للتحلّي بمنظور أفضل. هذه باختصار "رسالة" الفيلم، وهي إن كانت محمودة من حيث المبدأ إلا إنها معيبة وخطيرة بمساواتها الضحية بالمجرم والانكفاء على التغنّي بشعارات السلام والوئام دون التحلّي بشجاعة التأصيل للموقف الراهن ومعاودة التاريخ لفهم أصول الأوضاع التي يتمنّى الفيلم إبدالها.

في محاولة لاستيعاب العديد من المواقف والشخصيات في السرد، يفقد النص فعاليته ويتعمّد إحالة البالغين إلى دورٍ سطحي. والأكثر إثارة للاهتمام الأسئلة المشروعة التي يطرحها محمود وآلون على نماذجهما الأبوية حول أسباب الكراهية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. أسئلة معقدة، ضاعت الآن في زمنٍ ممتدٍ وعالق من البربرية والتقتيل، وأصبح من الصعب فكّ شفرتها بشكل متزايد. لكنها أيضاً أسئلة منقوصة يطرحها الفيلم على المتفرّج بوضوحٍ لا لبس فيه، ناسياً إكماله، لأنه في الأصل لم يبدأ من المكان الصحيح لطرح الأسئلة.

(*) عُرض مؤخراً في إيطاليا
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها