الأحد 2024/08/04

آخر تحديث: 11:25 (بيروت)

نوري بيلجي جيلان.. خمس وصايا سينمائية

الأحد 2024/08/04
increase حجم الخط decrease
مدرسة قروية في تركيا، ومعلم محبط، وطالبة جميلة تتقدم بشكوى ضده: في فيلمه الأخير، "عن أعشاب جافة"، يبحث نوري بيلجي جيلان، كما هو الحال دائماً، عن الحقائق الروحية للإنسان، غوامضه ودوافعه وكل ما يشغل البال بشأنه. ومع ذلك فإحدى وصاياه الخمس لصناعة الأفلام تقول ألّا تعرف ما الذي تبحث عنه.

حمقى ومتسكعون 
أليست الشخصية الرئيسية في فيلمه الجديد مجرد أحمق asshole؟ يبدو نوري بيلجي جيلان (65 عاماً) مندهشاً بالسؤال: "أوه.. لا. ثم في أحسن الأحوال يمكنك القول أننا جميعاً حمقى متسكعون. وإذا كنت تعتقد أنه أحمق، أعتقد أنك تخدع نفسك". ساميت أو صمد (الممثل دنيز سيليلوغلو)، البطل الضد للفيلم، مدرّس فنون يشعر في الواقع بأنه أكبر من مدرسة قرية الأناضول النائية حيث يعيش ويعمل. يحظى بشعبية كبيرة بين طالباته ولكنه أيضاً محبط وسريع الغضب ومتلاعب، ويواجه المشاكل عندما تشتكيه تلميذته المفضّلة للإدارة وتتهمه بسوء السلوك.

في حديثه لـ"المدن"، يقول جيلان: "هل تعلم أن هذا ما يتمّ الإدعاء به على جميع أفلامي؟ أن شخصياتى حمقى؟ حتى في ما يتعلق بـ"مناخات"، الذي مثّلت فيه بنفسي، إذ وصفني معظم النقَّاد بالأحمق (في ذلك الفيلم، مثّل جيلان أمام زوجته، الممثلة إبرو جيلان، التي شاركت في كتابة سيناريو "عن أعشاب جافة" - المحرّر). حسناً، ولكن هل يمكننا وصف شخصيات دوستويفسكي بالحمقى أيضاً؟ هل راسكولنيكوف وغد؟ (التلميذ في رواية دوستويفسكي الكلاسيكية "الجريمة والعقاب"، المثقل بحقيقة أنه قتل صاحبة المنزل- المحرّر) يعلّمنا راسكولنيكوف شيئاً عن الجوانب المظلمة لأرواحنا. إذا قمت بتعريف مثل هذا الشخص على أنه مجرد أحمق، فإنك تمنع نفسك من رؤية الواقع في حقيقة الأمر".

الجانب المظلم للشخصيات
استند جيلان في فيلمه بشكل فضفاض إلى مذكرات كتبها أكين أكسو، كاتب سيناريو فيلمه السابق، "شجرة الإجاص البرّية" (2018)، الذي قام بالتدريس ذات مرة في مدرسة صغيرة في ريف تركيا، ولا سيما في أرضروم. "إنه مزيج من الخيال والتخييل. ما الذي جذبني إلى اليوميات؟ التفاصيل. لكن لا تسألني عنها، لأنني لا أتذكّرها. عموماً، هي ليست في الفيلم. ولكن هذا هو الحال تماماً: بمجرد أن تغوص في شيء ما وتبدأ في الكتابة، تظهر أفكار جديدة. قراءة مذكرات أكين أذهلتني وظللت أفكر في بعض التفاصيل، حتى قررت كتابة فيلم يتعلق بتجاربه وتأملاته. إنه موضوع يوفّر إمكانية التفكير في مفاهيم أساسية معيّنة، مثل الخير والشرّ، الفردية والجماعية، اللتان تمثلان دائماً في بلدنا الانقسامات. قصة الفيلم ليست مهمة جداً بالنسبة إلي. أنا مهتم أكثر باللحظات المثيرة للاهتمام حيث يمكنني التقاط صراعات الشخصيات. وبالأخصّ نفوسهم، عليك أن تنزل عميقاً بداخلها. أحبّ الجانب المظلم من شخصياتي، فأنا أقول الأشياء من خلال التعرّجات المظلمة التي يتحرّكون فيها. هم ليسوا أبطالاً مضادين لأنني لا أملك نظرة رومانسية للحياة؛ بالنسبة لي هم ناس عاديون".

ليس سهلاً السيطرة والإحاطة بجيلان، الذي انضمّ، من خلال أفلام مثل "سبات شتوي" الحائز السعفة الذهبية، وملحمته الرائعة "حدث ذات مرة في الأناضول"، إلى صفوف أعظم مخرجي عصره. أعماله درامية طويلة وهادئة وميلانكولية، غالباً ما تدور أحداثها في مجتمع قروي ناءٍ مثل المجتمع الذي نشأ فيه المخرج ذات يوم. مليئة بسماء واسعة مصوّرة بحبّ وعناية وبراعة، ومحادثات مزاجية ومطوّلة بين شخصيات محاصرة، حوارات تكون في بعض الأحيان دوستويفسكية حافلة بالعديد من القضايا الملتهبة في السياسة التركية، ما ينقل للمتفرّج وعياً باستحالة النجاة من فخاخٍ لا مفرّ منها وضرورة اتخاذ موقف في الحياة مثلما في النقاش الدائر.

المونتاج والحذف..
في الأصل كانت النسخة المبدئية من "عن أعشاب جافة" أطول بمرتين في مرحلة السيناريو من الفيلم النهائي، الممتدّ بدوره لأكثر من ثلاث ساعات. يقول جيلان: "أردتُ استخدام كل شيء. وقد فعلتُ ذلك، لأعود وأحذفه مرة أخرى في المونتاج. حتى المشاهد الأكثر تكلفة، المتضمنَّة مئات الممثلين الإضافيين. كُلها حُذفت. ربما لأنني لا أحبّ المشاهد الكاملة. أنا رجل موسيقى الحجرة على أي حال: فريق عمل صغير، عدد أقل من الممثلين".

على شرفة أحد الأسطح في مدينة كانّ، حيث عُرض فيلمه للمرة الأولى قبل عامٍ، سمح المخرج لمجموعة من الصحافيين بطرح بعض الأسئلة عليه. من إجاباته يمكن استخلاص ما قد نعتبره الوصايا السينمائية الخمس لنوري بيلجي جيلان.


ليس مخرجاً بالفطرة
"في الواقع، الإخراج لا يناسب شخصيتي. أحبّ أن أكون وحيداً، بما أنني أعتبر نفسي من النوع المعادي للمجتمع. لكن لكلّ منّا حدوده وقدراته، وأنا وجدت نفسه متجهاً للإخراج، لأنني لست كاتباً جيداً، ولست رساماً جيداً. اعتقدتُ أنني مصوّر فوتوغرافي (قبل مسيرته السينمائية كان جيلان مصوراً فوتوغرافياً ناجحاً- المحرر)، وفي هذا الدور، واجهت أيضاً القوة العلاجية للفنّ. لكن إمكانات التصوير الفوتوغرافي لم تكن كافية بالنسبة إلي. السينما لديها القدرة على إخبار شيء ما عن النفس البشرية. ربما ليس بقدر الأدب، ولكن يمكنك التعبير عن كل مشاعرك الغريبة فيها".

اكذب على ممثليك
"لا توجد صيغ للعمل مع الممثلين. ما يصلح لممثل لا يعمل مع آخر. وإذا أردت تغيير شيء ما في طريقة أحد الممثلين، فمن الأفضل غالباً أن تفعل ذلك من خلال الممثل الآخر في المشهد نفسه. التمثيل يدور حول ردّ الفعل. هذا ما يحدث في أغلب الأحيان في التصوير: خداع الممثلين، والكذب عليهم. يُسمح بأي شيء لإخراج الشيء الصحيح، ولجعلهم ينسون سلوكياتهم. ولكن ما لا يجب عليك فعله أبداً هو التحدث إلى الممثلين على المستوى التحليلي. مثل: هذا المشهد يعني هذا أو ذاك. هذا لا ينجح. ثم إنهم لا يفعلون ما تريد بالضبط. لذلك عليك أن تكذب عليهم طوال الوقت. أحياناً يكتشفون أنني أكذب بشأن شيء ما، لكنهم يسامحونني بعد ذلك، لأنه "من أجل الفيلم". الممثلون أناس لطيفون".

التصوير في الشتاء
"لماذا هناك ثلج كثير في أفلامي؟ هذا السؤال مرة أخرى! أعتقد أن مردّ ذلك تعزيز هذا الشعور بالمكان البعيد المنعزل. أحبّ الثلج، فهو يعيدني إلى طفولتي. على الرغم من أن فصول الشتاء هذه الأيام ليست قاسية كما أتذكّرها. بالنسبة إلى "عن أعشاب جافة"، توجّهنا إلى أبرد جزء من تركيا، ومع ذلك كان الجو مشمساً في كثير من الأحيان. هذا هو قانون مورفي: إذا كنت بحاجة إلى نوع معيّن من الطقس لفيلمك، فستحصل على العكس. أعتقد أنني أجد الطبيعة أقل أهمية مما كانت عليه عندما بدأتُ صناعة الأفلام. الطبيعة بخير عندما تكون هناك. لكن الوجه الإنساني هو أجمل المناظر الطبيعية بالنسبة إلي الآن".

لا تعرف ما الذي تبحث عنه
"في أفلامي الأولى، كنت لا أزال غير متأكد من ذلك لدرجة أنني أردت اتخاذ قرار بشأن كل شيء قبل أن نبدأ التصوير. الآن أترك كل شيء مفتوحاً، لأقرر فقط وقت المونتاج. عادةً لا أعرف ما أريد أثناء التصوير. أحياناً أقوم بتصوير شيء ما ولا أنظر حتى إلى ما أصوّره. ثم أفكّر فيما يمكنني تصويره. ما لا يجب عليك فعله أبداً كمخرج هو التوقف والقول إنك لا ترى ذلك. لأن ثقة الجميع في المجموعة تنهار فجأة.

لا أريد أبداً أن أصنع أفلاماً عن شيء أعرفه جيداً وأفهمه تماماً. المجهول أفضل دائماً: الشيء الوحيد الذي يستحق التصوير. ولهذا السبب فإن أفلامي لا تتعلّق أبداً بالظروف الاجتماعية، أو أي شيء مثل السياسة. هذا سهلٌ للغاية، وليس غامضاً بدرجة كافية. الروح البشرية، هذا هو المجهول".

اقرأ الروس
"منذ شبابي، عندما قرأت تشيخوف ودوستويفسكي للمرة الأولى، وجدت نفسي أنظر إلى الحياة من خلال منظور الأدب الروسي. كل الأشخاص الذين أقابلهم يشبهون بعض الشخصيات في أعمالهم. ليس غريباً، فالزمن يتغيّر، لكن الناس لا يتغيّرون.

ربما يكون صحيحاً أنك شعرت بحقائق الناس وتنوعاتهم المختلفة قبل قراءتك هذا الأدب الروسي، لكن حينها تراودك ظنون وشكوك حول نظرتك ذاتها للناس، تشعر بأنها غريبة وربما مجحفة. تتعامل معها كانحرافٍ ينبغي عليك إخفاءه. بعد ذلك، بفضل تلك الكتب والروايات، تكتشف أنك لست وحدك. أريد أن أحقق الشيء نفسه مع أفلامي. أن تعطيك الشعور بأنك لست وحدك".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها