الجمعة 2024/07/12

آخر تحديث: 12:46 (بيروت)

الياس كانيتي في "نار الله": عقول العالم...أقنعة لهَول الجنون

الجمعة 2024/07/12
الياس كانيتي في "نار الله": عقول العالم...أقنعة لهَول الجنون
محاولة من كانيتي لاستشعار ما لا يمكن إصلاحه في هذا العالم
increase حجم الخط decrease
في الكتاب الذي وضعه عن نيتشه، يستعير الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز –بطريقته الخاصة– فكرة الجنون عن الإغريق متوقفاً بشكل خاص عند قولهم أن الجنون هو الأقدر على تفسير الكثير من الأمور المزعجة. فالجنون في هذا السياق هو بمثابة أبوكاليبتو شخصي، أداة كشف وواقعة هائلة تمهّد الطريق للأفكار الجديدة وتقطع الطريق مع كل تقليد بليد. لكن ماذا حين يكون الجنون عاماً؟ ماذا حين يكون العالم بأسره مجنوناً؟ هذا ما يتطرق إليه الكاتب البلغاري الأصل، إلياس كانيتي، في رواية "نار الله" (منشورات المتوسط 2023. ترجمها عن الألمانية كاميران حوج).

كُتبت الرواية بين العامين 1929 و1931 ونُشرت في طبعتها الأولى في العام 1935 وأدّت بكاتبها إلى أن ينال جائزة نوبل للآداب في العام 1981.

يرى الكثير من نقّاد هذا العمل أنه صدى لويلات الحرب العالمية الأولى وما شهدته هذه الحرب من تراكم جثث بما لم يسبق له مثيل، بيد أن ثمة ما يجيز لمتلقي هذه الرواية القول إنها تتمتع براهنية هائلة حتى وقتنا الحاضر. فأن يكون الجنون هو آلية من آليات إدراك العالم، عطفاً على ما يعتور هذا العالم من مآس وحروب وموت، ثمة تسويغ عندئذ لأن تكون "نار الله" عملاً راهناً على الدوم. 

فضلاً عن الأنبياء وناس الله، تحفل الرواية بكم كبير من أسماء الفلاسفة والمفكرين، وتدور هذه الأسماء بمعظمها على لسان الشخصية الرئيسية في الرواية، بيتر كين، عالِم الشرقيات وصاحب المكتبة الضخمة والتي ينقلها معه -داخل ذهنه- إلى كل مكان في محاولة منه للإستحواذ على تصور واضح عن العالم، تصور منسجم بالحد الأدنى مع تاريخ العقل كما صير إلى بثّ هذا التاريخ في كل تلك الكتب. إنما العالم كما يقدمه كانيتي في هذا العمل، يأبى الركون إلا إلى اللغز وما علينا نحن البشر إلا إعادة محاولة فهم هذا اللغز مع كل حفلة جنون تلمّ بنا، تلمّ بالعالم عن بكرة أبيه. 

لا يسفّه بيتر كين سردية العقل في الأفق الثقافي للغرب كما صير إلى ترتيب هذه السردية منذ أفلاطون مروراً بديكارت وصولاً إلى إيمانويل كانط. لكنه يشير عبر شخصيات روايته إلى خلاء هذه السردية، إلا من أدوات الضبط التي تؤسس لإنسان الجشع وإنسان الحروب، والجنون في هذا السياق هو الأجدى من أجل بثّ الصورة الحقيقية لعالم العقل المرتبك على الدوم. ربما ركون المرء إلى نفسه داخل مصحّ للأمراض العقلية أجدى من الركون إلى كانط في فهم أخلاق البشر وهو ما تهمس به الرواية منذ البدايات الأولى للقص. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن كانيتي كان بصدد تسمية روايته "كانط محترقاً" قبل أن يستقر عنوان الرواية على "نار الله"، وحسناً فعل. 

من النافل أن رواية "نار الله" تقذف بالقارىء إلى حقل من التأويلات بسبب ما يداخل أحداثها من وقائع غريبة عجيبة تخالف الحد الأدنى من توقعات أي قارىء، إذ ليس من يسر الأمور توقع سلوك حارس المبنى حيث يعيش كين والذي هو دركي متقاعد(!). أيضاً، من باب العبث محاولة الوقوف على المآرب الأخيرة للقزم فيشرله، على سبيل المثال، والذي يدير منزلاً للدعارة ... فيشرله الذي يحلم ببطولة العالم في الشطرنج والهجرة إلى بلاد الفرص الذهبية، الولايات المتحدة. فنحن مع هذه الشخصية إزاء صياغات تعمل جاهدة لتأسيس إحساس مشترك بالعالم لكنها صياغات تجرف مفرداتها من معجم الجنون... من ذلك المعجم الذي لا يرى في سرديات العقل سوى ثرثرات لم تهيء إلا تراكم الجثث في الحرب العالمية الأولى. وقد يكون فيشرله في هذا السياق تمهيداً صريحاً لأوسكار صاحب الحدبة في رواية "الطبل الصفيح" لغونتر غراس، الذي بدوره صاغ مفهومه عن العالم عطفاً على تراكم الجثث في الحرب العالمية الثانية.

يدعونا كانيتي عبر مجمل شخصيات "نار الله"، إلى الوقوف على طبائع الجثث من أجل فهم جنون العالم. ذلك أن طبائع الأحياء أثبتت عبر التاريخ أنها لا تتعدى أن تكون سبلاً لمراكمة الجثث... فلنستنطق الجثث لفهم العالم... فلنستنطق الموتى لفهم الأحياء.

إذا كان باكونين قد قال في واحدة من نتعاته أن الشيطان هو أول كاتب حر، فإن كانيتي وعبر مجمل شخصيات "نار الله"، لا سيما شخصية البروفسور بيتر كين، يقول لنا إن المجنون هو أول كاتب حر. ومن الأهمية بمكان في هذا الصدد أن كين، كما بثّه الياس كانيتي في هذه الرواية، هو فيلولوجي من نمط رفيع لا يتعب على الإطلاق من تعقّب أصول الكلمات، تلك الأصول التي بحسب البروفسور كين، لا تهيء إلا أرضية اللامعنى والضياع... لا تهيء إلا فكّ ركائز الكلمات في علاقتها مع العالم الذي يحدّق فينا بإمعان. فالإستخفاف بكل معاجم العالم هو الدرس الأوّلي لفهم كتاب هذا العالم كما ينبئنا ذلك البروفسور المجنون. فاللاتواصل هو الركن الأساسي في عُدّة جنون العالم والكلمات في هذا المحل لا تقدّم سوى فرضيات لا تلبث أن تتهاوى مع كل حرب، مع كل مجاعة مع كل تهديد بإطلاق صاروخ.

في قراءته لدوستويفسكي يقول جورج شتاينر إن الخجل من الإنتماء للجنس البشري في قرننا (القرن العشرين)، قد اتّخذ أبعاداً أشدّ قتامة من تلك التي تنبّأ بها صاحب رواية "الجريمة والعقاب". أما الخجل من هذا الإنتماء في رواية "نار الله" فقد تجسّد في تبنّي الجنون طريقاً للخلاص... جنون العالم وجنون الكلمات. فالعالم هو حدث هلعي شرط فهمه يقوم على محض الجنون.

قد تكون "نار الله" في بعض مراميها محاولة من إلياس كانيتي لاستشعار ما لا يمكن إصلاحه في هذا العالم، إذ فضلاً عن أوسكار غونتر غراس، تحيل رواية كانيتي أكثر ما تحيل إلى تلك الروايات التي نفض أبطالها أيديهم من إمكان تحسين العالم أو الوقوف على الحد الأدنى من التفاؤل حياله. بالتالي، إن الجنون سيد الموقف ولا نقطة مرجعية قد ترتّب انفعالات المتلقي لهذه النار، "نار الله"، ذلك أن التوتر المنبجس عن هلوسات ناس هذه النار، يرسم هذا التوتر علاقة القارىء مع الرواية منذ البدايات الأولى للسرد حتى نقطة النهاية. 

يخبرنا كانيتي مع بدايات سرده أن هذا العالم الذي قد اكتفى برصيده الخاص من العقل لا يني يتبيّن له أن العقل مجرد مزحة، مزحة سمجة بين منبسطات الجنون. فنحن نعيش في عالم أكثر ما تستجيب طرقاته لوقع نعال أولئك المتوجهين إلى أعمالهم من الصباح للمساء أو لأولئك المتوجهين إلى ساحات الحروب. ولا يخفى في هذا السياق المرجعية الكافكاوية في مجمل متون "نار الله" وهي مرجعية لم يخف كانيتي يوماً إعجابه الشديد بها. 

ينهي جورج لوكاش روايته الرائعة عن العقل، "تحطيم العقل"، بالعبارة التالية: بنضالها من أجل العقل أعلنتْ الجماهير حقّها في النظر في القرارات التي تُلزم مصير العالم وهي لن تترك هذا الحق. إن الجماهير لن تتنازل عن هذا الإنتفاع بالعقل لخير البشرية". فيما رسم كانيتي كل ناس "نار الله" بلا استثناء وعلى رأس هؤلاء بيتر كين (الذي قد يكون هو كل هؤلاء الناس في آن معاً... إذ ليست لهلوسته حدود)، وعندما فعل كانيتي ذلك، وعلى العكس من لوكاش، أعطى الجماهير حقاً من نمط آخر. الحق في أن يكون المرء مجنوناً، علّ الجنون يساعد -أقلّه على المستوى الفردي- في جمع أوصال العالم. عالم ما نركن نحن المجانين إليه وقد فشل العقل في هذا الجمع النوستالجي لشتات العالم.

يمكن أن يقال في "نار الله" الكثير، وبالنسبة إلي، كل قول في عمل من هذا النمط يستبطن قول المتلقي عن ذاته بشكل خاص، وليس هذا بالأمر الناقص، إذا ما أخذنا أسماء مهمة في عالم التأويل بعين الإعتبار. وبالعودة إلى مقولة النوستالجيا، فإن النوستالجيا في "نار الله" ليست تلك الإستعادة الحية لذكريات عن العالم، مضت وولّت. إنما النوستالجيا، بحسب هذا العمل، هي الركون إلى محض الجنون، إلى الهلوسة إزاء مقاربة العالم. فكل عقول العالم هي أقنعة لهول الجنون.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها