السبت 2024/06/08

آخر تحديث: 12:53 (بيروت)

مئوية كافكا: بنات آوى في غزة

السبت 2024/06/08
مئوية كافكا: بنات آوى في غزة
لفترة وجيزة، أغرته فكرة الصهيونية
increase حجم الخط decrease

لو كان حياً، ماذا كان كافكا ليقول بشأن عالمنا اليوم؟ بشأن غزة على سبيل المثال؟ استنطاق الأموات، لعبة نزقة ولا تخلو من نذالة بكل تأكيد، أما كافكا على وجه الخصوص فالنبش خلفه بعد مئة عام مهمة عصية، وهو من كان يبغض التفلسف، ولم يترك في أدبه أمثولات وشيفرات معنى تفك رموزها، فالاغتراب الذي كتب عنه في جل ما وصلنا من أعماله تجربة تعاش وتختبر، ولا تحتمل تفسيراً. ووصيته -التي لم تنفذ- بإحراق كل أعماله، تجعل من مجرد قراءتنا لأدبه تلصصاً على الضد من إرادته. لكننا وبكل الأحوال لن نكون أول من يحاول مناجاة كافكا من وراء القبر.

"وصف كافكا بقوة خيالية مذهلة معسكرات الاعتقال المستقبلية، وهشاشة القانون في المستقبل، والاستبداد المستقبلي لجهاز الدولة، والحياة المشلولة واليائسة والمتعثرة للعديد من الأفراد؛ كل شيء يبدو وكأنه في كابوس، وبتشوش الكابوس وتشوهه"... ما يكتبه بريخت هنا عن كافكا لا يتعلق فقط باستشرافه للدول الشمولية في القرن العشرين والهولوكست، الذي راحت أخواته ضحايا له، بل أيضاً يقدم كافكا وصفاً دقيقاً ونبوياً لعالم يمكن أن تكون الإبادة والقتل الجماعي فيه أعمالاً روتينية يومية، وبشكل باعث على الملل.

لفترة وجيزة، أغرت فكرة الصهيونية كافكا، وبدأ في أخذ دروس في اللغة العبرية لن تطول، وحينها فكر في الهجرة مع خطيبته دورا ديامانت إلي فلسطين. ولقد تخيلا معاً أن يفتتحا مطعماً في تل أبيب، حيث ستعمل دورا في المطبخ بينما يقوم كافكا بخدمة الموائد. لحسن الحظ لم ينته مصير كافكا إلى أن يصبح نادلاً هناك. لكن، وفي 14 آذار/مارس 1939، أي بعد 15 عاماً من وفاة كافكا، وبعدما اجتاحت قوات ألمانيا النازية تشيكوسلوفاكيا، سيهرع صديقه الأقرب برود مع زوجته إلسا وحقيبة مليئة بمخطوطات كافكا إلى محطة السكة الحديد المركزية في براغ، حيث استقل الزوجان قطاراً إلى وارسو، وهو القطار الأخير الذي عبَر الحدود التشيكية البولندية قبل إغلاق الحدود بأوامر من الجيش الغازي. ومن هناك سافرا إلى رومانيا، حيث استقلا قاربًا مع لاجئين يهود آخرين إلى إسطنبول، ثم أثينا، كريت، ومن هناك إلى الإسكندرية، وأخيراً إلى تل أبيب.

من دون إرادة منه، سينتهي إرث كافكا في إسرائيل. فبعدما فشل برود في نشر أي من تلك الأوراق، سيتركها بعد وفاته العام 1968 إلى سكرتيرته، إستير هوفي. وبعد وفاتها في العام 2008، ستؤول ملكية أعمال كافكا غير المنشورة إلى ابنتها إيفا هوفي. سعي إيفا لبيع الأوراق إلى الحكومة الألمانية قاد إلى ما أُطلق عليه "محاكمة كافكا الأخير"، حيث سينظر القضاء الإسرائيلي في نزاع على ملكية إرث كافكا بين الحكومة الألمانية وبين المكتبة الوطنية الإسرائيلية، وسيحكم في النهاية لصالح الأخيرة. ضمناً حكمت المحكمة بأن كافكا صار إسرائيلياً.

في العام 1917، ستنتهي علاقة كافكا مع حبيبته فيليس باور، وفي العام نفسه سيكتب لها بوضوح في آخر رسالة لها "أنا لست صهيونياً". وفي رسالة قبلها بقليل إلى صديقه جريت بلوخ، وصف نفسه بأنه "رجل مستبعد من أي مجتمع يحفظ الروح بسبب عدم صهيونيتي (أنا معجب بالصهيونية لكني أشعر بالغثيان منها)". 

***
"سيدي، نريد منك أن تضع نهايةً لهذا الصراع الذي يُقسِّم العالم تقسيمًا. إنك أنت الرجل الذي تنبَّأ أسلافنا بأنه سيولد كي يقوم بهذه المهمَّة بالتحديد. لا نريد أن يَقُضَّ العرب علينا مضاجعنا بعد الآن، نريد مساحةً لنتنفَّس، أُفُقًا خاليًا منهم. نريد ألا نسمع ثغاء الغنم التي يذبحها العرب مرَّة أخرى، أن يموت كلُّ حيوانٍ ميتة طبيعيَّة دون تَدَخُّلٍ، إلى أن نأتي على الجيفة كلها فلا نترك منها إلا العظام نظيفة بيضاء من غير سوء. النظافة ولا شيء غيرها هي ما نبغي -(والآن بدأ قطيع بنات آوى في النواح والعويل)- كيف يُمكِنك احتمال العيش في عالمٍ كهذا يا صاحب القلب النبيل والأمعاء الطَّيِّبة؟ إن القذارة بياضهم، والقذارة سوادهم. لحاهم تثير الرعب، ومجرَّد رؤية محجر عين الواحد منهم تثير فيك الرغبة في البصاق، وعندما يرفع أحدهم ذراعه تجد ظلمات الجحيم تتثاءب تحت الإبط. ولهذا -أيها السَّيِّد الطَّيِّب، أيها السَّيِّد المُبَجَّل- نريد منك أن تجزَّ أعناقهم بهذا المقص!"...

في الاقتباس أعلاه من قصة "بنات آوى والعرب" المنشورة في العام 1917، يكون كافكا أقرب ما يكون من التنبؤ بمستقبل الصهيونية، ومستقبل إسرائيل التي استولت على إرثه عنوة، ويكون أقرب ما يكون أيضاًَ من سلسلة المذابح التي ستلحق بالفلسطينيين وآخرها المقتلة الإبادية الجارية في غزة. في تلك القصة، الراوي الأوروبي الآتي من الشمال، بعد أن يتجول في الصحراء، يرحب به قطيع من بنات آوى (وبحسب جوديث بتلر هي إشارة مقنّعة إلى اليهود الصهاينة) وتتعامل معه بنات آوى بتبجيل على أساس أنه شخصية مسيحانية انتظروها جيلاً بعد جيل وبعدها يطلبون منه تنفيذ المهمة الموكلة له وهي قتل العرب بمقص. كما تشير بتلر أيضاً فإن المقص هنا سخرية من أن الخياطين اليهود الوافدين من أوروبا الشرقية غير مهيئين للصراع، وبالرغم من مقتهم الشديد للعرب فهم غير قادرين على قتلهم بأنفسهم.

في واحدة من المرات القليلة، يعجز كافكا عن استشراف الشر الفادح الآتي، كافكا الذي تواكب مئويته واحدة من آخر حلقاته وأكثرها دموية. 

 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها