الجمعة 2024/06/28

آخر تحديث: 11:18 (بيروت)

عينُ سلمان رشدي

الجمعة 2024/06/28
عينُ سلمان رشدي
لم يبادلني السقف الكلام بعد مغادرة رشدي
increase حجم الخط decrease
تولّد لدي انطباع حاد أن السقف يحادثني.
كنت ممدداً فوق السرير في تلك العتمة الغامرة أحدّق في سقف الغرفة.
ثمة انطباع طاغ استولى على كل حواسي: إن السقف يحادثني.
كنت ممدداً فوق السرير كواحد وافر البدن والذهن والأعضاء لكني كنت على ثقة أن السقف يحادثني.

 تمنّيتُ من كل قلبي أن يمتدّ حديث السقف لساعات لأيام ولأسابيع.
 كنت ممدداً هناك كطفل في منتصف الليل وجسدي كان ضخماً ضخماً. لم يطالعني الخارج البغيض بصوت رصاص أو قذائف أو بذلك الصوت الذي تطلقه القنابل اليدوية. ربما كان الليل مثلي ممدداً فوق فراش عريض يتفرّس السقف فوقه، يتفرّس وجه السماء.

كانت عبارات السقف صامتة لكنها تقول الكثير.
 تزاحمتْ الأمور داخل ذهني المترع بالحفر وكنت تماماً كطفل وحيد في منتصف الليل.
أحسب أني كنت أعاني تبدلاً في الملامح وأن وجهي الضخم قد اكتسى طابع الإنصات، الإنصات وحسب.

 رحت استرقّ السمع فجأة إلى شظايا كتاباتي المتفرقة... كل كتاباتي. حتى تلك التي قد رميتها في الزبالة كانت تستحثني كي أنصت بإمعان.

يقول سلمان رشدي في مذكراته: كل الشظايا تنتمي إلى الكتاب نفسه.
لست أدري إذا ما كان هذا الإنعكاس الذي في المرآة هو انعكاسي أو أنه انعكاس شخص آخر يشاركني الغرفة على غفلة مني. لا أظن أن الرجل الذي في المرآة هو أنا. فأنا ممدد فوق السرير بينما ذلك الذي في المرآة يتمتع بقامة منتصبة ويحمل في كفّه عيناً.

يبدو أن العين التي في كفّ الرجل هي عينه بالذات.
يبدو أن ثمة من قلع عين هذا الرجل من مكانها فوق وجهه لكن الرجل متشبث بالإحتفاظ بالعين داخل كفّه.

مسّد الرجل فوق العين التي في كفّه بواسطة كفّه الآخر ثم دون أن يتوجّه إليّ قال: داخل كلّ منا ثمة رواية تنمو، وكل ما علينا فعله هو متابعتها مهما استعصتْ علينا تفاصيلها ومهما حاولتْ الفرار.

أخذتُ كلام سلمان رشدي على محمل الجد بل تراني قد رأيتُ تلك الكلمات بأم العين وقد توثبتْ داخل رأسي ثم أخذتْ تتراقص بفرح.
أشحتُ بوجهي عن هذا الروائي الذي شغل العالم وركّزتُ بصري فوق تلال الأوراق المكدسة فوق الطاولة وعلى الأرض وفي سلة القمامة.

كان الخارج ينعم عليّ بهدوء وافر لم أعهده من قبل فإذا بي أتمتع بقوة إنصات لم أعهدها في سمعي منذ أن قررتُ المضي في كتابة "الرواية".

قبل قراري أن أكتب رواية لم أكن على وعي أن للحواس الدور الأكبر في كتابة الروايات. هزّ سلمان رشدي رأسه موافقاً فواكبتُ بدوري حركة رأسه بالعبارة التالية: أظنّ أن الذهن هو فقط وسيلة الحواس لضبط الكلمات بين دفتَي الكتاب... أيضاً وأيضاً، وافقني رشدي.

مالتْ قامته إلى الخلف قليلاً وهو يحاول إعادة زرع العين في وجهه. تأفّف للحظات ليكف بعدها عن تلك المحاولة اليائسة، كما قال. "سوف أحتفظ بعيني بكفّي" قال وهو يتجاوز عتبة المرآة.

جمّعتُ شؤوني داخل رأسي وقررتُ أن أواكب حضور سلمان رشدي بالكثير الكثير من الحكي والكلام الذي عليّ أن أتداوله معه.

تذكرتُ عبارة وردتْ في مذكراته تقول: "لا يجب علينا القبول بتوصيفات الواقع التي يقدمها لنا رجال الأمن والساسة ورجال الدين... لا بد للإنسان أن يعمل جاهداً بغية أن يولد من كنف ذاته".

لم تواتِني قدراتي الذهنية على تتبّع فكرة "الولادة من كنف الذات". تريثتُ فضّ العبارة وما تختزنه من معان إلى أن يحين الوقت، وها هو قد حان. فسلمان رشدي يشاركني الغرفة بكل رحابة وبلا كلفة حتى ليحسب المرء أن أثاث الغرفة يظنّ أني والرجل على صداقة منذ عقود وعقود والسقف كذلك.

نعم، قال رشدي، لا بدّ من العمل بغية أن يولد الإنسان من كنف ذاته.
 استدرجني صوته وهو يعيد تلك العبارة عليّ إلى ما كنت ساهياً عنه حيال هذه العبارة الرائعة.
... يذكر رشدي في تلك المذكرات أنه كان يمتلك معنى عن العالم، بَيد أن تلك الفتوى الشهيرة سقطتْ عليه كمطرقة وبددتْ كل المعاني وتركته في كون لا أخلاقي مضمحل ويعيث فيه اليباب. يقول أن تلك الفتوى جعلتْ العالم في نظره بلا شكل، عبثي، لا معنى له، إنما – عند هذه اللحظة كان يتملّى العين التي في كفّه بتلك التي في وجهه – إنما، كان عليّ، كما قال، أن أستعيد توازني، أن أعيد خلق نفسي من كنف نفسي.

راح الروائي الهندي-البريطاني يفيض إليّ بما عاناه من خوف ورعب وقد حوّلته تلك الفتوى إلى شبح في نظر ذاته. أخبرني رشدي وهو يحدّق في عينه أن ثمة شعوراً تلبّسه لسنوات بعد فتوى الخميني: إن مشكلتي الأكبر هي أني لست ميتاً، فلو كنت ميتاً لانتفتْ الحاجة إلى القلق. إن التزام تلك الحافة التي تفصل الموت عن الحياة لسنوات طوال، كما قال، هو أصعب من الموت يا... (قال إسمي).

... يبدو أن سلمان رشدي مثل الآخرين يعرف إسمي!!
ساورتني الشكوك أكثر من مرة حيال أن يكون رشدي قد حضر حقاً إلى غرفتي ورأيتُ إليّ وقد صرت بأمسّ الحاجة للتأكد من هذا الأمر.
شأن كل الروائيين العظماء، لرشدي تلك الموهبة الفائقة في اختراق الأذهان وقراءة ما يدور بداخلها.

نعم، أنا هنا، قال لي ليسرد عليّ بصوت واضح إحدى العبارات التي وردتْ في كتاب حياته: "يجب أن نثق أن لعالم الخيال والأحلام والفن والإبتكار هذه القدرة على التسرّب عبر الحدود التي تفصل الواقعي عن الخيالي. يجب أن نترك المدارك تستلذّ بقطع تلك المسافة الواقعة بين الحقيقة والخيال".

تلقّفتُ كلماته بكل خواطري ورأيتني فجأة أسمع وقع خطواته فوق أرضية الغرفة. اجتاز تلك المسافة الشاسعة التي تفصل المرآة عن الأوراق التي فوق الطاولة بتمهل مقصود ثم ومع كل خطوة يخطوها صار يصدر نحنحة كمن يتهيّأ لأن يبوح بأمر ما.

وضع عينه التي في كفّه فوق الطاولة ثم أخذ يزيح تلك الأوراق عن بعضها البعض باهتمام واضح تمظهر في جدية اكتستْها ملامحه.
كدت أقول لرشدي أن كل ما أمامه من أوراق لا يعدو تراكمات من الفشل اليومي الذريع.

 للمرة الثانية قرأ رشدي ما يدور في خلدي ليسرد عليّ نصيحة مهمة – كما قال – كان قد توجه بها إليه صديقه الألماني غونتر غراس. إنها نصيحة غراس لي عن فكرة الخسارة، قال رشدي: تذكّر شيئاً، قال لي غراس، إن الخسارة تعلمك درساً أعمق من تلك الدروس التي يعلمك إياها الفوز... فالخسارة قد تمد الإنسان كما قال غراس، بموهبة التبصّر وإعادة النظر في كل شيء، كل شيء ... كل شيء.

لست أدري لماذا رأيتُ إليّ أتنفّس الصعداء بعدما تلا رشدي على مسامعي نصيحة غراس. صرت كحيوان صغير انسحب إلى وجاره وهو يشعر بالطمأنينة والحماية والسلام. 
أنا حيوان الرواية الصغير أتمنى المكوث إلى الأبد في وجار دافىء يضمّني. أريد أن أكتب، أن أكتب وحسب.

حسناً، قال رشدي، ماذا يعني أن يكون الإنسان كاتباً؟
لم يوجّه السؤال إليّ بل إلى تلك العين التي في كفّه...
ماذا يعني أن يكون المرء كاتباً؟ عاد وكرر السؤال ليجيب: يتعلق الأمر بالدرجة الأولى بثقة الكاتب بحكاياته.

 أسهب رشدي في الكلام كثيراً عن ثقة الكاتب في حكاياته لينهي ما يشبه محاضرته عليّ بالقول: إن السقوط فوق الصفحة هو بمثابة البحث عن النشوة اللانهائية يا...عاد ونطق بإسمي.
عاد الهدوء الذي يعمّ الخارج ليحتل مساحة ذهني. تمثلتُ هذا الهدوء فجأة كغول على وشك الإنقضاض. تراني قرأته بحدس غريب كأنه وحش الأمس واليوم وربما الغد وهو قاب قوسين أو أدنى من باب غرفتي.

تجاهل سلمان رشدي ارتباكي الذي استجدّ من غير قصدي وقال لي كمَن يلمّح إلى شيء ما: في بعض الأحيان علينا الإستسلام لِلَحس الأفاعي لآذاننا. فبحسب أصدقائنا الإغريق، قال رشدي، إن لحس الأفاعي للآذان يمنح الأذُن تلك القدرة الهائلة على سماع صوت المستقبل.

لم أناقش صاحب "أطفال منتصف الليل" في عبارته الأخيرة حول المستقبل والآذان والأفاعي، فأنا كنت في تلك اللحظات أتراوح بين انتباهات الصحو وخلسات الغيبة.

يجب عليك، إذا ما أردتَ أن تكتب، يجب عليك، قال رشدي بإلحاح، أن تصاحب ملاك الموت... فلملاك الموت من الأخبار ما يزيّن لك كل دروب الحياة مهما كانت هذه الدروب مخزية، كما قال.

... حينما سألَتْه مراسلة الإذاعة البريطانية عن شعوره بعدما أصدر الخميني حكمه عليه بالإعدام، لست أدري بماذا ردّ صاحب "آيات شيطانية"، لكنه أورد في مذكراته الحقيقة التالية: حين ترتطم بالقاع، تعرف عندها كم عمق المياه التي أنت فيها، إنما كل ما عليك فعله بعد هذا الإرتطام هو أن تتشبّث بعدم البقاء تحت، بعدم البقاء في القاع. يجب على المرء، قال رشدي حرفياً، يجب على المرء أن يمتلك كرامة كونه مقاتلاً أكثر من تلك التي يمتلكها بكونه ضحية. 
عاد وكلمني عن تلك المسافة القريبة جداً من الموت بل عن الحياة باعتبارها ترصّداً دائماً لذلك الضيف الثقيل، الموت.

لم أكن على ثقة إذا ما كانت تلك الجلبة التي أخذتْ في التزايد هي من بنات أفكاري أو أنها واقع فعلي. فالحضور الأليف لسلمان رشدي زعزع تلك المسافة الهشة التي تقع بين الحقيقة والخيال.
توجهتُ إليه بكلمات مقطعة بالسؤال التالي: هل – تسمع – ما – أسمع؟؟
كنت هائج الخاطر ولا سلطان لي على صوتي أو على ضبط نفسي أو على دقّات قلبي. طرد الهواء من أنفه بهدوء وأتى بحركة من يده تنمّ عن لا مبالاة هائلة!!

كم تمنيتُ لو كان بإمكاني العيش في ظل هذا النمط العريق من اللامبالاة. رغبة عارمة استبدتْ بي للوقوف على تفاصيل تلك اللامبالاة. فليس من يسر الأمور أن ينقل أحدهم إليك ذلك الشعور من الخفة واللامبالاة عندما تكون مغبة فتوى دائمة، فتوى أبدية، فتوى تحايث تفاصيل حياتك.
رشدي نجح في الفرار، لكن ماذا عني؟ ماذا عنا؟

سألتُ نفسي هذا السؤال بينما تلك الجلبة كانت تتهادى كدبيب قُبلات غير مشتهاة.
أنبأتني لا مبالاة سلمان رشدي حيال تلك الجلبة التي ترسم المشهد عن بكرة أبيه منذ سنوات طويلة، أنبأتني أن لهذا الرجل، شأنَ كل الكتّاب العظام، مكاناً صغيراً مغلقاً بإحكام في قعر ذاته. إنه مكان سري عميق لا يتجاوز حجمه حجم رأس دبوس لكنه أيضاً شاسع، شاسع إلى آخر حدود الأرض.

أنبأني استخفافه بتلك القُبل الباهتة التي تُحضّر في الخارج أن للرجل ركناً جوّانياً لا قدرة لأحد في هذا العالم على اختراقه أو الوصول إليه.
نعم، قال لي، إنه المكان الذي تتدفق منه كتاباتي.

ران الصمت، إلا من تلك الجلبة التي أخذتْ في التزايد والإزدحام.
ران الصمت ورأيت إليّ إبان هذا الصمت العميق قد فزتُ بتلك الخفة واللامبالاة. كدت أشكر رشدي لنقله إلي ذلك الشعور الجميل من الغبطة والإستسلام الراقي، كدت أغمره بيديّ وقد فاض ذهني بالكلمات.

كان جالساً بكامل ثباته فوق كرسيي يتصفح فوضى أوراقي، كان هناك على الكرسي بينما عينه التي في كفّه تبادلني نظرات الإبتسام والإحتضان.
ترامتْ إليّ ذكريات بعيدة نتأتْ فجأة من داخل قلبي وصرت كأني رهن ذلك الماضي البعيد،  ورهن تقطيبة الحاضر الذي أعيش تفاصيله بزخم، ورهن مؤامرة يحيكها لي المستقبل باتّقان وترو... وهذا كله في الوقت نفسه.

عاد رشدي إلى تلك النحنحة الشحيحة فأعادني إلى حاضر وجوده في غرفتي. أخذتْ مني الدهشة مأخذها وقد رأيتُ إلى أوراقي التي قد توزّعتْ فوق الطاولة بكل ترتيب ورهافة وانتظام!

كدت أشكر الرجل وقد قام بترتيب كلماتي بما فاق توقعاتي. كانت الأوراق موزعة بانتظام وكأن عبر هذا التوزيع ثمة رسالة يجب عليّ تلقفها وفك شيفرتها والوقوف على مضامينها بكل دقة وبحبوحة عَيْش.

خفتتْ تلك الجلبة إلا من همس ضروس كان ينطلق من آن إلى آن، ما دفعني لأن أشيح البصر عن رشدي وأوراقي وأن أتطاول بنظراتي ناحية الشرفة حيث الهمس يجرجر أذيال خيبته بانتظار الإنقضاض.

عقدتْ الحيرة لساني، أما غريزتي العميقة فقد حدّثتني أني بصدد معايشة تداخل عارم للحقيقي بالخيال. هيّأتُ نفسي لتلك المعايشة التي أترقّب حضورها الطاغي منذ سنوات طوال، ولم ألتفت بالمرة إلى كل ضروب الضياع أو التشتت التي قد تستبدّ بي... أنا الآن روائي عظيم.
كنت إزاء شعور حميم يبث السكينة في الأوصال، وكنت أيضاً إزاء شعور آخر يرمي بي في فورة التضعضع والإضطراب والتيهان.

لم أسأل نفسي من أنا، لم أتجرّأ على طرح هذا السؤال.
نقف رشدي بأصابعه، كي أؤوب إليه، ثم رمى نظرة سريعة فوق تلك الأوراق المنتظمة وكلمني بعبارة لن أكتبها.

شيّعته باختطاف النظرات عبر تلك المسافة الفاصلة بين الكرسي والمرآة ليتوارى بعدها، شأنَ معظم الذين سبقوه بالحضور إلى هنا، ليتوارى بعدها في جوف المرآة.
اطمأنّتْ نفسي إلى تلك الهيئة التي مدّتني بها أوراقي المنتشرة في الغرفة، وعدت بعدها إلى تحديقي الأجوف في سقف غرفتي.

لم يبادلني السقف الكلام بعد مغادرة رشدي... إنه سقف، مجرد سقف والسقوف لا تنطق بالكلام.

نهضتُ من السرير واقتعدتُ ذلك الكرسي الخشبي العتيق وولّيتُ ذلك الهمس الضروس أذني الصمّاء ورحتُ أدوّنْ من الكلمات ما عزّ عليّ شطبه.

تولّتني الحيرة حيال تلك الكلمات الجميلة وساءلتُ نفسي إذا ما كنت قد نجحتُ أخيراً في رصف الكلمات بما يتناسب مع روحي، بما يتناسب مع كوني روائياً عالمياً لأرى إليّ ومن حيث لا أدري، في خلوٍّ من هذا الهم الطائش... همّ أن أكون روائياً عالمياً.

أنا لا أحد... أنا كائن يخطّ الكلمات فوق الورق تمريراً للوقت، وهذا جلّ ما أبتغيه.
أرخى استبداد الرغبة في أن أكون روائياً قبضته من فوق ذهني، فراحت الكلمات تهرول فوق الورق كهرولة أطفال ليس في منتصف الليل إنما في وهج النهار.

لن أدوّن في هذه الصفحة الأخيرة كل ما كتبته، إنما سأكتفي ببثّ بضعة سطور من روايتي. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها