الأحد 2024/06/02

آخر تحديث: 07:54 (بيروت)

إخفاق الإسلام السياسيّ: مجرّد مصادفة؟

الأحد 2024/06/02
إخفاق الإسلام السياسيّ: مجرّد مصادفة؟
خلل بنيويّ في «فلسفة» الإسلام السياسيّ يفسّر بعض انقباضه حيال أيّ مشروع للنقد الذاتيّ
increase حجم الخط decrease
يذهب الأستاذ هشام جعفر، في مقابلة معه نُشرت على منصّة «فكر تاني» يوم ١٣ أيّار/مايو الماضي، إلى فشل الإسلام السياسيّ في تقديم نموذج سياسيّ ناجع في المجتمعات التي قيّض له أن يكون فيها جزءاً من النخب التي تولّت شؤون الحكم. في هذا الصدد، يشير جعفر إلى إخفاق الإسلام السياسيّ في وضع سرديّاته وتجاربه الماضية تحت مجهر النقد، بما يتيح له استخلاص الدروس من الأخطاء التي ارتكبها بغية تجديد مقارباته ومساءلة بعض منطلقاته وثوابته: «هناك مبادرات فرديّة للنقد الذاتيّ، ولكنّها غير منظّمة، ولم تُحدث أي نوع من التأثير على أحزابها وهيئاتها السياسيّة». لا ريب في أنّ تجربة الإخوان المسلمين في مصر بعد ثورة يناير هي الأكثر مثولاً في ذهن جعفر لدى إطلاقه حكماً من هذا النوع. غير أنّه يعتبر أنّ تقويمه النقديّ هذا لا ينسحب على الحالة المصريّة فقط، بل يتخطّاها إلى دول أخرى في المنطقة العربيّة كالمغرب وتونس. 

إذا سلّمنا بصوابيّة هذا الحكم المبرم، لا مناص من طرح السؤال عن السبب الذي يحول دون قيام الإسلام السياسيّ بمثل هذه المراجعة المتوخّاة على نطاق واسع، إذ من البديهيّ أن تنصرف الأحزاب السياسيّة، كلّما اقتضت الحاجة، إلى التبصّر النقديّ في تجاربها الماضية إذا هي أرادت مراكمة الخبرة ومواصلة تعاطيها أمور السياسة بفاعليّة أكبر ومقبوليّة أوسع لدى الجمهور. فما الذي يجعل هذه الملاحظة العامّة لا تنطبق على الإسلام السياسيّ الذي يومئ إليه جعفر؟ هل هذا التلكّؤ هو مجرّد حالة طارئة أم يمكن عزوه إلى عوامل بنيويّة هي في صلب المنظومة الفكريّة التي يتوكّأ عليها هذا الإسلام؟

ربّما يزوّدنا تاريخ الفكر اليونانيّ القديم بمفتاح معرفيّ يعيننا على تدبّر هذه المسألة. فالمعروف عن هذا الفكر أنّ التبصّر النقديّ في أحوال المجتمع، ولا سيّما في الطرائق الفضلى لحكم المدينة، سبقه ما قام به عدد من المفكّرين، اصطُلح على تسميتهم «فلاسفة الطبيعة»، من تفكيك للتأويلات الغيبيًة ذات المصدر الميثيّ للكينونة والوجود. لقد رفضت هذه الثلّة من الفلاسفة التسليم بالتفسير الميثيّ للظواهر الطبيعيّة كحركة الشمس وتواتر الفصول والكسوف والخسوف والتبدّلات في الأجسام المادّيّة. ودشّنت مقاربةً أكثر «علميّةً» تقوم على المساءلة والمشاهدة واللجوء إلى فرضيّات تحيل على الطبيعة ذاتها، لا على عالم الآلهة الغيبيّ، بالرغم من عدم خلوّها من التخييل. وليس من المبالغة في شيء القول إنّ فلسفة الطبيعة هذه شكّلت، إلى حدّ ليس بقليل، «اللحظة» المنهجيّة، إذا جاز التعبير، التي استلهمها وبنى عليها في ما بعد فلاسفة عظام مثل أفلاطون وأرسطو سعوا إلى التفكّر في شؤون الاجتماع الإنسانيّ عموماً، وشجون السياسة على وجه الخصوص. 

إذا كان هذا التحليل صحيحاً، فإنّ شرط أيّ مقاربة نقديّة لأحوال المجتمع والسياسة هو القطع الجذريّ مع الإسقاطات الغيبيّة والاعتصام بمقتضيات العقل ومناهجه وآليّاته. والحقّ أنّ قسماً لا يستهان به من النظريّة الاجتماعيّة لدى الإسلام السياسيّ ما زال يستند إلى فكرة قوامها أنّ أسلمة المجتمع، ولا سيّما عبر تطبيق الشريعة، هي ما يتكفّل، في نهاية المطاف، بأن يرضى الربّ على أفراد هذا المجتمع وأن يغدق عليهم الخيرات. حيال هذه المقاربة ذات الطابع الغيبيّ، لكونها تستنزل الخير الإنسانيّ من علِ على نحو شبه ميكانيكيّ، تتراجع الثقة بالحكمة الإنسانيّة والمشاريع الاقتصاديّة الذكيّة، وتحلّ الإيديولوجيا الدينيّة ذات الطابع الجمعيّ محلّ الإيمان الشخصيّ الذي عماده الحرّيّة الفرديّة. لئن كانت لبعض الإسلام السياسيّ، في غير مكان، إسهامات جديرة بالاحترام والتقدير في السياسة والاقتصاد، إلّا أنّه لم يقم حتّى اليوم بإخضاع هذه المقاربة الغيبيّة في موروثه الفكريّ لمراجعة نقديّة جذريّة. وكمّا تعلّمنا من الأغارقة، فإنّ نقد التجربة السياسيّة أنّى له أن يستقيم ما لم يسبقه، أو يصاحبه، تفكيك لل «المنهجيّة» الغيبيّة في التعامل مع الأمور والظواهر المحيطة بنا. لعلّنا، هنا، أمام خلل بنيويّ في «فلسفة» الإسلام السياسيّ يفسّر بعض انقباضه حيال أيّ مشروع للنقد الذاتيّ يتّسم بالشموليّة والعمق ويمجّ التسويف وتدوير الزوايا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها