السبت 2024/06/15

آخر تحديث: 11:01 (بيروت)

البوانسيانة هي شجرة الملوخية...تاريخ شخصي للأشجار

السبت 2024/06/15
البوانسيانة هي شجرة الملوخية...تاريخ شخصي للأشجار
يعود اسم شجرة البوانسيانة إلى فيليب دي لونجفيلييه دي بوينسي (1584–1660) أحد نبلاء الفرنسيين في أخوية فرسان مالطا
increase حجم الخط decrease
كان ذلك في زيارتي الأولى لبوينس آيريس، تجولنا أنا وصديقي ابن المدينة على غير هدى في ساعة الظهيرة قاسية الحرارة، وقد اقتربت درجة الحرارة في ذلك الوقت من اليوم من 40 درجة مئوية ومعها نسبة رطوبة قاتلة. لكن الغابة الحضرية الكثيفة من أشجار الشوارع الشاهقة والمصفوفة على الجانبين جعلت الجو خارج البيوت ألطف من داخلها. يومها كنا محظوظين بنسمة خفيفة تلاعبت بظلال الفروع المتشابكة من الجانبين فأسقطت على الأرصفة حركة ناعمة وحيوية. وبينما كان سيرنا يتقدم بخطوات بطيئة عمداً، توقفت في فرحة، وأشرت لصديقي نحو شجرة مزهرة توسطت أشجار المطاط الكثيرة، وهتفت: هذه شجرة طفولتي. ساعتها هز هو رأسه باستغراب، هذه الجاكرندا، شجرة لاتينية جداً، ما الذي كانت تفعله في طفولتك؟ (لاحقاً سأعرف أن الاسم برازيلي، أما الشجرة نفسها فموطنها الأصلي البيرو). وحين اقتربت ومددت يدي لقطف إحدى أوراقها المتشعبة التي تشبه السرخس، تشككت في ذاكرتي، الوريقات الدقيقة بدت أعرَض من وريقات الشجرة التي توزعت بكثافة في شوارع حي طفولتي شرقي القاهرة، وحين فركتها بين أصابعي كان ملمسها أقل ليونة ولم تكن لعصارتها الرائحة الرطبة والغنية التي أذكرها من الماضي.

ليلتها، وبعد قليل من البحث في الانترنت، عرفت للمرة الأولى اسم شجرة الطفولة، وتعجبت كيف عشنا بين تلك الأشجار زمناً طويلاً من دون أن نعرف اسماً لها. كنا نطلق عليها شجرة الملوخية، مع أنها لا تشبه الملوخية في شيء سوى أنها عند فرك وريقاتها تترك عصارتها لوناً أخضر يلتصق بالأصابع لبرهة ويبقى تحت الأظافر لوقت أطول. ليلتها عرفت أن اسمها البوانسيانة الملكية، ما أجهلني! قرأت عن البوانسيانات مراراً، وتخيلتها دائماً شجرة أوروبية باردة. وأيضاً اتضح أن البونسيانة غير الجاكرندا التي رأيتها في بوينس آيريس، مع أنهما تتشابهان كثيراً، ويسهل الخلط بينهما. الموطن الأصلي للبوانسيانة الملكية، شرق أفريقيا، مدغشقر.

في حي الطفولة، مساكن الحلمية، الواقع كعتبة مثلثة الشكل بين مصر الجديدة والمطرية وعين شمس، اصطفت الأشجار الوارفة بانتظام أمام المنازل موحدة الطراز، ذات الدورين والحدائق الخلفية. كانت تلك الأشجار في معظمها حضرية، غُرست لأغراض الزينة، في امتداد للنسق الأخضر المديني لحي مصر الجديدة. فيما ضمّت حدائق المنازل المسورة بعض الأشجار المثمرة كأثر قريب للماضي الريفي لحي المطرية، توت أبيض وجوافة ونخيل. كنا نظن دائماً أن تلك أشجارنا البلدية، لكن التوت الأبيض صيني، يرتبط بصناعة الحرير، ولعل انتشاره حدث في زمن حكم محمد علي أو قبله. والجوافة وصلت من الأميركيتين بعد زمن من الانقلاب الكولومبي، وما عرفته متأخراً وأدهشني أن نخيل الشوارع في القاهرة في معظمه ليس من نخيل التمر المحلي الأصل.

في العام 1868، وقبل عام واحد من افتتاح قناة السويس، استوردت حكومة الخديوي إسماعيل، شجر بانيان هندي، لغرسه في قصره وقصر والدته وفي شوارع العاصمة وحدائقها، ومازال ينتصب عدد من تلك الأشجار المعمرة وهائلة الحجم في وسط مدينة القاهرة، في أحياء غاردن سيتي والزمالك والأزبكية وحديقة الحيوان بالجيزة. كانت شجر البانيان جزءاً أساسياً من المشروع العمراني باهظ الكلفة للخديوي المهووس ببناء باريس على النيل، وجلب معها مئات الأشجار والنباتات من حول العالم لغرسها في أنحاء عاصمته، تحت إشراف جيش صغير من الحدائقيين الذين استقدمهم من أوروبا. وذلك استعداداً لحفلة افتتاح قناة السويس، وتدشين القاهرة كعاصمة حديثة.

قضيت طفولة دُمغت بذكريات قطف زهور الشجرة التي عرفناها باسم شجرة الملوخية، جمعنا بذور شجرة عين العفريت وطحنّاها أو أضفناها سليمة إلى البخور كما أخبرنا البالغون، وقمنا بغلي أوراق شجر الكافور أو جففناها تحت الشمس لأيام قبل طحنها لتتحوّل إلى مسحوق نفّاذ الرائحة العطرية. كنا محظوظين بواحتنا الحضرية في مدينة، لا تحوى سوى عشرة في المئة من المساحات الخضراء اللازمة لسكانها بحسب المعايير العالمية. (سأعرف لاحقا أن عين العفريت نبات متعرش وليس شجرة، لكن ارتفاعه قد يصل إلى قمة الأشجار العالية).

تتميز شجرة البوانسيانة بأنها سريعة النمو، وتلقي ظلاً واسعاً مقارنة بارتفاعها، وهي أيضاً تتحمل فترات طويلة من الجفاف كما تتحمل قدراً من الملوحة، مما يجعلها واحدة من أكثر أشجار الزينة شعبية في مدينة مثل القاهرة. تحمل البوانسيانة إسماً آخر هو شجرة الشعلة، إذ تزهر في مطلع الصيف بأزهار حمراء زاهية، بلون اللهيب، وهو اللون الذي كان مميزاً لبعض أحياء القاهرة في شهر يونيو.

في زيارة لولاية كيرلا الهندية قبل سنوات، سأعرف من مرشد سياحي محلي أن المسيحيين في الولاية التابعين للكنيسة السريانية، يؤمنون بأن المسيح صلب بجوار شجرة بوانسيانة، وأن دمه سفك على زهورها، وهذا سبب لونها الأحمر القاني. تنتشر البوانسيانات في أحوشة مدارس الهند، وسأعرف من أصدقاء هنود أن الشجرة ذاتها هي شجرة طفولتهم. 

يعود اسم شجرة البوانسيانة إلى فيليب دي لونجفيلييه دي بوينسي (1584–1660)، أحد نبلاء الفرنسيين في أخوية فرسان مالطا، والذي حكم جزيرة سانت كريستوفر (سانت كيتس) من العام 1639 حتى وفاته العام 1660، في البداية باسم شركة جزر أميركا الفرنسية (المشروع الاستعماري الفرنسي لجزر الأنتيل) ثم لاحقًا تحت حكم فرسان مالطا أنفسهم. كان بوينسي الشخصية الرئيسية في استعمار فرسان القديس يوحنا الصليبين للأميركيتين. مدهش أن ترتبط البوانسيانة بتقاطع تاريخ الصليبية مع تاريخ استعمار جزر الهند الغربية والتي شهدت واحدة من أعنف عمليات نقل العبيد من أفريقيا لخدمة مزارع القصب والقطن. وكأن شجرة الشعلة علامة بلون الدم القاني لتاريخ من الاقتلاع والغرس القسري للبشر كما الأشجار.

منذ أكثر من ثماني سنوات، لم أزر القاهرة، ولم أزر حي الطفولة والصبا لأكثر من عقد. لا أعرف إن كانت البوانسيانات وعين العفريت وأشجار الفيكس المملة والصبورة مازالت صامدة أم لا، أمام حملات ذبح الأشجار المتواصلة في مصر، والمتصاعدة وتيرتها في الأيام الأخيرة.

معلومة ختامية: تمتلئ شوارع القاهرة بأشجار النخيل المستوردة، نخلة الملكة (أصولها من البرازيل)، نخل الكناري (جزر الكناري)، نخل الرخام والمعروف أيضاً باسم النخل الملوكي (موطنه الأصلي كوبا)، نخل واشنطن (نخل مكسيكي وينتشر في جنوب الولايات المتحدة ومنح اسمه تكريماً للرئيس الأميركي جورج واشنطن). على عكس نخل البلح المحلي، هذه الأنواع من الأشجار ثمارها غير قابلة للأكل، وبالكاد تلقي ظلاً. 


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها