الجمعة 2024/06/14

آخر تحديث: 13:17 (بيروت)

الذاكرة سيدة نفسها... إلى حد اللامبالاة بنا

الجمعة 2024/06/14
الذاكرة سيدة نفسها... إلى حد اللامبالاة بنا
increase حجم الخط decrease
ماتت قطتي "شيرا" دهساً عندما كنت في الرابعة عشرة من العمر. سخر مني أبناء الحي بسبب الدموع التي ذرفتها على شيرا، وبلغتْ هذه السخرية أوجها عندما عمدتُ إلى دفنها تحت التراب.

لست أدري إذا ما كان هذا النص هو وفاء لماضي الذاكرة أو أنه مجرد استرجاع لحدث قد مضى وولّى ولم يغادر ذاكرتي بيوم. إن للذاكرة دروبها وهي دروب يستحيل تقييدها بنظرية صارمة أو قول متين. من المعروف أن الذاكرة انتقائية في خياراتها بيد أن ثمة ما تجترّه الذاكرة فلا يغيب عن البال مهما تقدّم بنا العمر. وفي هذه الحالة الأخيرة لا بدّ من الخشوع أمام وفاء الذاكرة لماضيها.

قد يقع بنا الظنّ حيال ماضينا وتوغّله في عتمات ذاته فنعمد إلى رصد الأجوبة المرتقبة التي قد تمدّنا بها ذاكرتنا إزاء حقيقة وقوع هذا الحدث أو ذاك لنكتشف أن الذاكرة خبيثة وهي غالباً ما تقترض من الخيال... تقترض أكثر مما نتوقع بكثير. لكني على ثقة مطلقة أني عمدتُ إلى دفن قطتي شيرا وتعرّضتُ لكثير من التنمّر بسبب قيامي بهذا الأمر وكنت آنذاك في الرابعة عشرة من العمر.

لست أدري ما هو النظام الذي تخضع له الذاكرة في فورة تدفقها، وأنا على يقين تام أنه حتى ثلاثي الذاكرة الهائل في دنيا الأدب لا يملك جواباً إزاء هذا الأمر... أما المقصود بثلاثي الذاكرة في دنيا الأدب: مارسيل بروست، جيمس جويس وفرجينيا وولف.

قد تعمد الذاكرة إلى نسف تفاصيل قصص الماضي لكنها أيضاً قد تعمد إلى شدشدتها بما يفوق التوقعات، وولاء المرء لماضيه هو سيّد المشهد في هذا السياق.

فعمل الذاكرة في هذا الصدد غالباً ما يكون محمّلاً برهانات، بوعود، بتحذيرات وأيضاً بخيانات حيال علاقة المرء بماضيه. لكن الذاكرة في كل هذه الحالات تراها محلّ غرور شديد. نعم، فأكثر ما تتمتع به الذاكرة، الغرور!!

إن الذاكرة هي سيدّة نفسها إلى حد اللامبالاة بنا، إلى حدّ الإستهتار بمشاعرنا بل إلى حدّ الفجور. ترى الذاكرة أحياناً تدفع بالحاضر لأن يكون متلعثماً إزاء علاقته بماضيه وتراها أحياناً أخرى تدفع بالماضي لأن يكون محل تأتأة وفأفأة ومحل تذبذب بين الحقيقة والخيال... لكني أصرّ على أني دفنتُ شيرا في ذلك اليوم وكنت أمسح دموعي بحواف كتفاي وأنا أهيل فوقها التراب بكفّيّ.

ربما ما يعزز من قوة الذاكرة ونتعات غرورها هو عدم خضوعها للمسافات البعيدة وللجدران وللحدود المسوّرة بإحكام. فالذاكرة هي سيدة اللامكان بامتياز كما أنها سيدة الزمان، تراها لا تتحيّز في "هنا" بعينه بل وتراها تشقلب على هواها الـ"هناك". فمكان الذاكرة هو تمام مثل زمنها، ضد أي ترسيم أو تعيين وضد كل سيادة محدودة الآفاق.

ماتت شيرا وأنا دفنتها تحت التراب لكن هذا الحدث الذي وقع لما كنت في الرابعة عشرة من العمر أراه وقد تحرّر من معناه الأول، لكن ذاكرتي لا تني تشدني إليه كحدث طازج على الدوم. لست أدري بالتحديد ماذا يعني هذا الحدث بالنسبة إليّ اليوم وكل عمل الذاكرة حيال هذا الحدث هو توريطي برؤية أصابعي الصغيرة تطمر شيرا تحت التراب.

ثمّة من يرى أن كل أحداث الماضي تتدفق عبر ثقوب الذاكرة إلى الحاضر. ربما هو قول صحيح، ولكن هذا لا يمنع على الإطلاق أن تكون الذاكرة آداة نتوخاها بلا قصد لسدّ ثقوب بل تشققات الحاضر وبنيانه الآيل للسقوط. فلماذا لا تكون النوستالجيا بمثابة الشريط اللاصق أو الصمغ الذي يشدّ ما يلي من أيام؟

بطبيعة الحال كثيرة هي الأحداث التي سبقتْ دهس شيرا وأكثر منها تلك التي تلت ذلك الدهس اللعين إنما جحوظ عيناي قطتي أثناء لفظها النفس الأخير كان عندي محطة حقيقية لتاريخ النظرات، ليس نظرات عيون القطط فقط إنما نظرات العيون بإجمال وعيون البشر ضمناً.

أنبأني حدث دهس شيرا والذي يحفر في ذهني عميقاً أن للذاكرة تلك القدرة على تشكيل ليس نظرات العيون فقط إنما أيضاً تشكيل الحواس، كل الحواس. إن حواسنا ألعوبة هشة بين الأيدي اللامرئية للذاكرة. نرى، نسمع، نلمس، نتذوق ونشمّ عبر مسارب الذاكرة الداكنة أو المشعشعة أو تلك المسارب التي تتراوح بين العتمة والضياء.

إن الذاكرة هي مسافة لا متناهية من المشاحنات التي تؤطر علاقتنا بالناس، بالطرقات، بالغيوم بالفصول بالعطور وبالغابات وبالقطط على حدّ سواء. بل أنها تؤطر أيضاً تلك العلاقة بمن نحب ومن نكره وبشكل خاص – أيضاً وأيضاً بكل غرور – تؤطر علاقتنا مع أنفسنا بلا هوادة وفي كل آن وحين.

قد تكون الذاكرة لمسة حنو ضد الحاضر الحرج وقد تكون صفعة قوية وهي أيضاً قد تكون وسيلة جذب إلى ماض نشتهيه أثناء رصدنا المستقبل المكفهر الضبابي المتعرج والمائع من كل حدب وصوب.

في مقاربتها للذاكرة الجمعية للشعوب تقول المؤرخة الفرنسية جاكلين الشابّي في الصفحات الأخيرة من رائعتها "ربّ القبائل": "غالباً ما يكون المستقبل هو الذي يصنع أحداث الماضي". من النافل أن هذا القول يستبطن تحيّز الجماعات إلى مستقبل عظيم إنطلاقاً من ماض موهوم يخطّ هذا المستقبل المُنتظَر نصوصه بالطول والعرض.

ما ينطبق على الجماعات في هذا السياق ينطبق أيضاً على الأفراد حيال علاقتهم بماضيهم الخبيء وهو أيضاً ينطبق عليّ.

بعد التنمّر الذي نلته بسبب ما لفّني من حزن على موت شيرا تراني تهت عن نفسي إلى حد بعيد في ذلك الوقت لكني كنت كلما زرتُ قبرها أعود إلى نفسي بتمكّن وبإمعان، فأقف عند هذا القبر وأكرر على نفسي القول: اسمي فوزي وعمري أربعة عشرة عاماً. والطامة الكبرى أو ربما الحسنة الكبرى، فأنا لا أعلم، هي أني حتى اليوم كلما خالجني حزن شديد لسبب من الأسباب أقف أمام مرآة ذاتي وأقول متحسساً ماضيّ: اسمي فوزي وعمري أربعة عشرة عاماً لا غير.   
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها