الأربعاء 2024/06/12

آخر تحديث: 13:21 (بيروت)

سليمان البسام يفكّك انفجار بيروت... لنصمت!

الأربعاء 2024/06/12
increase حجم الخط decrease
الساعة الثامنة والنصف من مساء ليلة ربيعية حارة في بيروت. أمتار قليلة تفصلني عن مسرح "دوار الشمس" في الطيونة. جادة سامي الصلح غالباً ما تكون، في مثل هذا الوقت، شبه فارغة. أسأل نفسي، للمرة الألف ربما، إن كنت أستطيع مشاهدة أي عمل يدور حول انفجار بيروت. عائلتي نجت بأعجوبة، رغم أن منزلنا انهار بالكامل. وقد أضعتُ أمي يومها، لأجدها مرمية في إحدى المستشفيات، تصارع نزيفاً في رأسها. لا أعتقد أني أمتلك القوة- ولا الإرادة- لأن أتحدث عن الانفجار. ولا أريد لأحد أن يأخذ الحدث هذا، ويقدمه لي، كمشهدية حائط مبكى. أمتار قليلة، ثم أسمع أصواتاً. باصات كثيرة، وسيارات كثيرة. ثم يافطة ورجل يصرخ ويشير صوب مدخل مرآب على اليمين: "عل مسرح؟ عل مسرح؟". لا أذكر أن كلمة "مسرح" تم التفوه بها أمامي بهذا الشكل من قبل. المسرح في الشارع. والمسرح الحدث. ابتسمتُ. وعلمتُ سلفاً بأن شيئاً شبيهاً بالـHappening ينتظرني مع مسرحية "صمت" لسليمان البسام. لقد ورّطني، أنا الجمهور، حتى قبل دخولي مساحة خشبته.

يستند المسرح السياسي إلى مفهوم مادي للتاريخ، من خلال التدخل الفعّال في مجرى الأحداث، والذي يستوعب الواقع في كليّته، مخرجاً الحدث من سياقه، ليعيد التساؤل وطرح الإشكاليات، في الحقبة التاريخية بأكملها. وعليه، يضع سليمان البسام انفجار بيروت في حقبة زمنية عربية متكاملة، حقبة "متحلّلة"، منكوبة، تبحث عن أمجادها الضائعة. هذا المنظور الواقعي الحازم يتطلب من الشكل الدرامي المعتاد، أن ينفجر كليّاً. تنفجر الممثلة السورية–الفرنسية، حلا عمران، وتنفجر وحدة المكان والزمان السياق، والموسيقى، كما الإيقاع.

تنفجر، ثم تئن، ثم ترقص، ثم تنوح. ثم نستمع إلى شهادات خبراء وجنرالات.

ممنتج، صمت البسام. أو بالأحرى، ممنتجة، بحيث أن الصمت هو شخصية أنثوية، تناجيها حلا عمران، تكونها أو تصاحبها.

يقول البسام عن "صمت" بأنها لا رجل ولا امرأة. هي نحن، هي أنا، هي الثائرة الغاضبة، والحبيبة الملوّعة، والعاشقة التي لا ينضب شبقها. هي أيضا الثكلى، والمناجية، والقاضية، والضحية.

في افتتاحية عمله النظري الوحيد "المسرح السياسي"، وضع بيسكاتور الحرب العالمية الأولى في أصل مشروعه الفني، ليقول: "التسلسل الزمني يبدأ في 4 آب 1914"، لتصبح التجربة الصادمة في المقام الأول للحرب، انقلاباً في الفنان. لم يعد بإمكانه أن يرى الحياة "من خلال مرآة الأدب الملتهبة". وبدلاً من ذلك، كان عليه أن ينظر إلى الأدب، والحياة نفسها، والفن ككل، من خلال مرآة الحياة الملتهبة.

هل 4 أب، كتاريخ، هو مصادفة بحتة، ما بين دخول مسرح بيسكاتور معترك المسرح السياسي، و"صمت" سليمان البسام، الذي جعل من انفجار بيروت، المادة الخام الأولى لعمله المسرحي "صمت"؟ كيف يصبح أفظع حدث في التاريخ الحديث، مادة للمسرح السياسي، وما هو شكل المسرح المقاوم في العالم العربي اليوم؟ أسئلة طرحها علينا سليمان البسام قبل عرض مسرحية "صمت"، في مسرح "دوار الشمس" الذي استقبل العمل بدعوة من مؤسسة سمير قصير. يسأل أيضاً عن ماهية الصمت، في عصر الثرثرة والضوضاء الإعلامية. عن المُجدي في الكلام، والصافع في الصمت. عن الرثاء، والأمة العربية المضمحلة، ورأس المال الغول.

الصمت والثرثرة ولغة البسام وعمران
يكره عصرنا العزلة والفراغ والوقت الذي لا شيء فيه سوى نفسه. يميل إلى ملء الصمت بالصخب والإعلانات والثرثرة. الكثير من الثرثرة. لنقول اللا شيء. لنملأ التجويفات فينا. نهاب الصمت. كعدوٍّ لدود. نخرج راقصين ليلاً معتمدين الضوضاء كاستراتيجة دفاعية. لنؤكد بأننا أحياء. لنضيع ونضيّع السؤال. لعلّه سؤال ما بعد الصدمة. لعلّ بيروت ما قبل وما بعد انفجار آب، تصرخ وتغني وتملأ المسارح "بالممثلات المومسات"، لتتماشى مع عصر الثرثرة. علّها لا تموت، أو تؤجل موتها قليلاً بعد.

يأتي "صمت" حلا عمران، مثرثراً. هي التي عملت على النص بصيغته العربية. هي التي أصبحت النص. أصبحت اللغة. الجسد اللغوي.

منذ لحظات العمل الاولى، منذ صعد سليمان البسام على خشبة المسرح، ليفتتح العرض، وعمران "تثرثر". تدندن. تتقوقع أولاً داخل عدد كبير من الميكروفونات. صورة حية عن الحاجة لدينا لأن نقول. ونُسمع. وبحركة مفاجئة، ترمي الميكروفونات أرضاً. بحركة رفض للمسموع، تُسمعنا ما لا نرغب في سماعه. تفلش أمامنا "أممنا العربية المتآكلة". تخبر وتغني. تغني ثم تسترسل في مونولوغ يلبسها وتلبسه. لم تعد جسداً على مسرح، يؤدي نصاً. مات النص مع عمران. قتله البسام. قتله في نَفَسها، وفي جسدها، وفي نبرة صوتها، دلعاً تارة، وتارة صراخاً. مات، وبقيت اللغة.

الصمت، مثل حقيقة الموت، لا مكان له في مجتمعاتنا. فقَد تأثير الكلمة المنطوقة بسبب كثرة الصور المتلفزة، المرئية، الافتراضية. بالنسبة إلى كلود ريجي، لا يمكن للغة أن تستعيد عمقها إلا بتحرير نفسها من طغيان المعلومات. وعليه، حاك سليمان البسام نصوصه المركبة، ليصبح صوت الكتابة الصامت مسموعاً، كما قالت مارغريت دوراس.

وحدها الأصوات والإيقاعات يمكن أن تكشف هذا الجزء غير المكتوب من أي عمل، الذي ينفتح على اللانهائي من المتخيّل. من هنا، لا بد أن نتوقف عند إيقاع علي الحوت، وموسيقى عبد القبيسي، اللذين مزجا لغاتهما، ولغة عمران.

اختيار الصمت لدى البسام هو الرغبة في محاربة كل ما هو معطى ونمطي ومنظم وقانوني في اللغة. إنها مسألة وضع حد للصيغ المأذون بها والثابتة والبالية للخطاب السائد، من أجل إسماع صوت شخصي وفريد، حيث يكمن التحدي في الهروب من الخطاب الواضح والكامل للـdoxa لإفساح المجال أمام نوع مختلف من الخطاب، قادر على تحويل شهادات الوجدان إلى إيقاعات وعلامات وأشكال.

باستخدام اللغة الموجودة كنقطة انطلاق، اخترع البسام وعمران معاً، لغة "أخرى"، لغة مفرطة في التجاوز، تتعارض مع اللغة البالية. بالنسبة إلى فالير نوفارينا، فإن المسرح هو بحث عن لغة منفتحة على أعماق اخرى، تحررُ اللغة الدرامية من إغراءات الكتابة، من الأسلوب الجميل، من الجُمل المبنية بشكل جيد مع منطق لا تشوبه شائبة يتعارض مع قوانين التنغيم والإيقاع. كسر القوالب واللغة المنمقة. كسر القصة والسردية. كسر الشخصية والمتخيل بكامله. في هذا المسعىن تسعى اللغة المبتغاة، La langue désirée، التي تصفها نوفارينا بأنها تضع المعدة والأسنان والفكين في العمل، حيث يحظى الصوت والإيقاع والصمت بامتياز. عند تقاطع الجسد واللغة المفصلية، يسعى صوت عمران، في الغناء كما في المحاكاة، إلى التعبير عن الحضور، كما لو أنه يتذكّر الجسد المفقود من خلال الصرخات والضوضاء والانبعاثات الصوتية.

خلق البسام وعمران لغة أخرى. لغة الفك والأسنان. لغة تمضغنا، نحن الجمهور الذي بقي مشدوق الفكين، طيلة 50 دقيقة، وهو ينظر الى ساعة، تمرّ ببطىء، ساعة تشير رويداً رويداً، إلى السادسة وسبع دقائق. ليسبق لحظة الفاجعة. العرض المسرحي، بأكمله، يسبق لحظة انفجار بيروت.
...
انفجرت بيروت. ومعها خرج الدخان على جسد حلا عمران. غنّت. لتعويذة أو variations لترتيلة "واه حبيبي" التي ترافق الشعائر المسيحية يوم موت المسيح.

من مات؟ نحن؟ هم؟ بيورت؟ من مات وهو يُغنّى بكل هذا الحب؟ بكل هذا الشغف؟ لمن يغني سليمان البسام؟

أستحضر جملة لسعدالله ونّوس، بعد عرضه لمسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران":  "حين عرضت المسرحية بعد منع طويل، كنت قد تهيأت للخيبة. لكني مع هذا كنت أحس مذاق المرارة يتجدّد كل مساء في داخلي. ينتهي تصفيق الختام، ثم يخرج الناس كما يخرجون من أي عرض مسرحي. يتهامسون أو يضحكون أو ينثرون كلمات الإعجاب، ثم ماذا؟ لا شيء آخر، أبداً لا شيء. لا الصالة انفجرت في مظاهرة ولا هؤلاء الذين يرتقون درجات المسرح ينوون أن يفعلوا شيئاً إذ يلتقطهم هواء الليل البارد حيث تعشعش الهزيمة وتتوالد".

وخرجنا من المسرح. وعلى عكس ما قاله ونوس، خرجنا صامتين. لا نضحك. ولا نثرثر. ولا حتى نتشارك الإعجاب من عدمه. رحت أراقب الأرجُل وأنا أنظر إلى درجات السلم صعوداً نحو هواء بيروت البليد. لفّنا صمت سليمان البسام، وصدى حلا عمران الذي نهش في جسدنا ليصبح جيفاً صامتة لا تعرف ماذا تفعل بكل ما حدث لها.

أعود لفكرة "الحدث". لهذا الـhappening البسّامي. لقد طلب منا، ومنذ اللحظات الأولى للمسرحية، ان نعتلي خشبة المسرح، وأن نجلس على كراسٍ مخصصة للجمهور. أراد توريطنا. قليلون امتثلوا. مريب طلبه. ما دخلنا نحنا والخشبة؟ نحنا "ننظر" ولا "نفعل". نحن شعوب بليدة كهواء بيروت، تحب التلصص على مصيرها، وهو يحصل أمامها. تهاب الفعل. أي فعل. ورغماً عن انوفنا، ورّطنا البسام. منذ صرخة الشاب "عل مسرح؟ عل مسرح؟"، ونحن نتورط. لعلّنا لم ننفجر في مظاهرة. لكننا، صمتنا.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها