السبت 2024/06/01

آخر تحديث: 09:59 (بيروت)

"في عرض الطريق"... طفرة البنية التحتية في مصر

السبت 2024/06/01
"في عرض الطريق"... طفرة البنية التحتية في مصر
أين يذهب بنا الطريق؟
increase حجم الخط decrease
عقب الأزمة المالية العالمية في العام 2008، خرجت لجنة بازل للرقابة المصرفية بخطة إصلاحية تُعرف بـ"إطار بازل 3"، وكان من أهم بنودها إعادة تدوير السيولة المتوافرة لدى البنوك الدولية في أدوات دَين سريعة الربح والتداول في الأسواق العالمية. سينتج عن هذه السياسات الجديدة ما سيعرف لاحقاً باسم "التدافع العالمي لتمويل البنية التحتية". ويندرج الترويج لمفهوم "فجوة البنية التحتية" بين الشمال والجنوب العالميين، في سياق حاجة دول الشمال والصين لتدوير فوائض الرأسمالية والتفوق التقني، بالإضافة إلى إدماج دول الجنوب أكثر في المنظومة المالية العالمية. من تلك المقدمة، ينطلق كتاب "في عرض الطريق: دراسات عن الحركة والتنقل في القاهرة"، من تحرير داليا وهدان ولمياء بلبل، ومن إصدار دار المرايا القاهرية مطلع العام الجاري، ليدلّ على أن صعود "دولة البنية التحتية" في مصر ليس استثناء، ومن ثم يقوم بموضعتها في السياق العالمي.

عبر 11 فصلاً لمجموعة متنوعة التخصصات من الكتّاب والباحثين، يتناول الكتاب مواضيع الحركة والتنقل والمواصلات وبناها التحتية في مدينة القاهرة، من زوايا متعددة، منها الاقتصاد السياسي والتاريخ ومحاور النوع الاجتماعي والإقصاء ومحور الحياة اليومية وحرية الحركة.

في الفصل الأول المعنون "كلنا نقطع الطريق"، تتبع داليا وهدان التغيرات التي لحقت بالمؤسسات الحكومية المحلية، مثل المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية، وكيف تم تفريغها من وظائفها الأصلية واختزالها إلى مهمة تدريب الموظفين الحكوميين على مناهج توطين الأجندات العالمية، وهو ما تصفه وهدان بإعادة استعمار تخطيط النقل والمواصلات. على المنوال نفسه، يكشف الفصل كيف تحولت الهيئات الخدمية الأخرى إلى آليات تفعيل التدافع العالمي للبنية التحتية، بعدما أعيدت هيكلتها لتصبح هيئات اقتصادية لها أذرع مالية تملك سلطة طرح السندات وأدوات ديَن غير تقليدية.

كون البنية التحتية هي تكنولوجيا مثبتة في الأرض، وفي الوقت نفسه هي آليات استثمارية وكيانات اقتصادية تتحكّم فيها السياسة، فهي بالضرورة مطبوعة بتاريخها. في الفصل الثاني، "المعنون من القاهرة إلى الضواحي الجديدة: القطار والنخبة والمدينة"، يتقصى عمرو عصام تاريخ حي حلوان، ضاحية القاهرة الأولى ومشتاها الأوحد، وكيف تأسس كصورة صارخة للتحيز العمراني، في مصر الخديوية. في ذلك السياق، يسرد الفصل التاريخ الطويل لقطار حلوان والذي أدمج لاحقاً في الخط الأول لمترو أنفاق القاهرة. وبالتوازي يرصد المفارقات والمقاربات بين ماضي ذلك الخط الحديدي، وبين حاضر القطار الكهربائي الخفيف الذي يربط مدينة السلام والعاصمة الإدارية الجديدة.

وفي الفصل الثالث، "أين يذهب بنا الطريق؟" يتصدى معتز محروس لأخطاء تحليل المشكلات المرورية في القاهرة، ويقوم بفحص معايير القياس المستخدمة في التصميم ويبين عدم كفاءتها. وفي ذلك يصل إلى نتائج مشابهة للفصل الرابع، "نموت نموت وتحيا العربية الملاكي" لوليد منصور، حيث يظهر جلياً أن الاستثمارات الهائلة في البنية التحتية تهدف بالأساس لخدمة السيارات الخاصة، على حساب الغالبية الساحقة من المصريين ممن يستخدمون وسائل النقل العامة والجماعية.

تقدّم آلاء عطية، في الفصل الخامس، "عوالم ما وراء الكارتة"، دراسة أنثروبولوجية لبوابات المرور على طريق القاهرة-السويس السريع، تنضح بالشاعرية. يتناول الفصل سياسات خصخصة الطرق منذ التسعينيات، وكيف تلاقي ذلك مع المبادرات الفردية لتجميع "الكارتة" بهدف إعمار مدينة السويس بعد حرب أكتوبر. أضفت الخصخصة شرعية على ممارسات بلا شرعية سابقة، حيث وظفت الدولة بلطجية الطريق السابقين من جامعي الإتاوات ليتولوا عملية تحصيل رسوم الطريق، في تدليل على أن فرض قوة الدولة لا يسير دائماً في خط مستقيم. لكن الطريق، كما يبين الفصل، لا ينحصر في ماديته، ولا في كونه جزءاً من البنية الاجتماعية أو مصدراً للربح والتراكم، لكنه أيضاً بوابة إلى الرغبات الإنسانية والشاعرية والأحاسيس والمؤثرات المتنوعة التي تتشابك مع المظاهر الاجتماعية. يتضمن الفصل حوارات مع سائقين ومحصلي رسوم، تصور الطريق بوصفه مكاناً مقدساً وبصُور عاطفية جداً، تنتهي أحياناً بانفجارات الدموع. تخلص عطية إلى أن بناء الطرق يسير جنباً إلى جنب مع تحديث أجهزة الدولة، وبعد ثورة يناير وهزيمتها كان يجب إعادة تشكيل الأمة، وتجسد ذلك في بناء الطرق الضخمة. هكذا يظهر أن مشاريع النقل الضخمة لا تنتمي فقط إلى "اقتصاد المظاهر"، بل أيضاً تشير إلى احتلال رأس المال لأجهزة الحكم في المجتمع المصري تدريجياً. ينتهي الفصل بطرح السؤال نفسه الذي بدأ به: لماذا كل هذه الطرق بينما نحن بالكاد نستطيع البقاء على قيد الحياة؟

يجمع الفصل السادس، "التنقل المستدام في زحام القاهرة"، لحسن حسين، عدداً من "حكاوي التنقل" المختلفة، والتي تجسد أحاسيس التحدي والانسجام والتأقلم مع جوانب متعددة من حياة القاهرة، وتتفاوت تلك القصص من التنقل بالمعدية النيلية في جزيرة الدهب إلى الحركة بأحذية التزلج (الاسكيت) في وسط المدينة. أما الفصل السابع، "نعمل جو"، فتتصدى فيه مي عبد الرحيم لقراءة المعنى البصري في إكسسوارات وملصقات المركبات في القاهرة. وفي هذا، يستلهم الفصل دراسة سابقة معروفة، بعنوان "هتاف الصامتين"، لعالم الاجتماع المصري سيد عويس، والتي انصبت على تحليل الكتابات على هياكل المركبات في المجتمع المصري المعاصر، وإن كان الفصل يتجاوز التحليل النصي، إلى ما هو أبعد بالنظر إلى آليات الضبط والانتماء والحنين وأنسنة الآلة وجندرتها، وكذا تقديم دراسة أنثروبولوجية مصغرة حول الاقتصاد القائم على إنتاج وتدوير إكسسوارات المركبات وبالأخص الملصقات المطبوعة.

تركز الفصول الأربعة الأخيرة على محور النوع الاجتماعي. ويقدم الفصل الثامن، بعنوان "من تركنا وراءنا" للمياء بلبل، مسحاً واسعاً وموجزاً للأسس النظرية والدراسات السابقة في مجال النوع الاجتماعي وموضوع تنقل النساء في مصر. أما الفصل اللاحق لريم شريف، والمعنون "في أثناء الحركة: النوع الاجتماعي والمواصلات العامة"، فيستكشف تكتيكات النساء في التنقل من خلال تحليل السلوكيات والممارسات في مواقف النقل العام في محطة الجيزة، ويعيد رسم الخرائط الذهنية التي تضعها النساء لضمان حركة آمنة في المجال العام، وما يتضمنه ذلك من أفعال المقاومة اليومية والشعور المتواصل بالترقب والخطر والتوتر في سياق تجارب متعددة الحواس تتأثر بمستويات الضوضاء وشدة الإضاءة.

تقدم مي عبد الرحيم في الفصل العاشر "أركب الهوا: حكايات من عالإسكوتر"، سردية ذاتية عن تنقلها داخل القاهرة، تزخر بالمشاعر وقصص التحرش والحروق واللحظات الحميمة قبل أن تنتهي بمشهد عرس على الطريق. أما إيمي رضا إسحاق، فتقدم في الفصل الأخير، "على فين رايحين؟"، سردية تمتد أيضاً على محور النوع الاجتماعي، لكن في قالب قصصي خيالي، وبحس أكثر تهكمية.

عبر مزيج من الدراسات الأكاديمية والتجارب الشخصية، يفتح "في عرض الطريق" عيوننا على المشهد المتكدس والمتقاطع والمتغير لطفرة البنية التحتية الجارية في مصر، ويجيب عل الكثير من الأسئلة بخصوصها، ويقدم لنا أدوات ومناهج من تخصصات متنوعة تمكننا من طرح المزيد من الأسئلة حول تلك المسالة شديدة الآنية وشديدة الإلحاح. 


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها