الخميس 2024/05/30

آخر تحديث: 12:52 (بيروت)

تمشي في لندن وتفتقد وجوهاً لبنانية وعربية

الخميس 2024/05/30
تمشي في لندن وتفتقد وجوهاً لبنانية وعربية
مدينة الدراجات
increase حجم الخط decrease
مرعب هذا الهدوء في لندن، عاصمة بلاط السان جيمس. تكاد تسمع جلبة حبة المطر وهي تهمي من سدرة الغيم الأبيض الكثيف. تدخل الى ردهة القادمين فتسألك ضابطة المرور في مطار هيثرو: "كم يوماً ستبقى في المملكة المتحدة سيدي". مملكة وسيدي يا سيدتي الماركيزة. وأنت القادم من حيث لا ملك ولا أسياد وتخاف أن تقول من لامكان.

في المطار ينقسم العالم فسطاطين: شعوب الدول المتقدّمة والحليفة وتحصل على ختم الدخول والمرور آلياً وبسرعة. أما شعوب الأرض الأخرى فإلى الصفوف الطويلة والانتظار وتوزيع قناني المياه على الأطفال والمسنين وذلك بسبب عطل تقني طرأ على بوابات المرور. لا بأس. فهذا العالم معطوب بأعطاله، معطوب بوحشيته ومعطوب بفوارقه. ولن يحرره الزمن ولن تحرره الآلة. وهكذا العالم يمضي في التيه. أما نحن ففي "توهان" عظيم. تدرك ما قاله أمين معلوف: "متى تعرف أنك تائه؟ عندما ترنو عيناك إلى بلاد أخرى. عندما تبقى في بلادك وعيناك على ماض لن يعود. عندما تبقى في بلادك وعيناك على مستقبل تراه مستحيلا".

مع وصولنا إلى لندن بهدف الاطمئنان على الجزء الآخر من العائلة(ابني وابنتي)، وصل الصيف قبلنا الى المدينة وكانت الحرارة 27 درجة، في حين كانت في بيروت بين 17 و20. قلنا لهم إننا احضرنا في الحقيبة شمساً كبيرة من لبنان. لا تهدأ حركة القطارات والسيارات منذ الصباح ولا حركة الصبايا والشباب على الدراجات الهوائية (سمّوها دراجة بوريس جونسون) وكان صاحب فكرة زرع الدراجات في أنحاء لندن. وهكذا لندن مدينة شابة وحيوية ومتنوعة. ومهما حاول الشتاء تعكير صفوها التليد فلن يقوى.



استوقفني في شارع إيرلز كورت، تمثالاً معدنياً للفنان البريطاني جيلبيرت وايمن، بعنوان "المتآمر"، وفي بلادنا صرنا نعرف كثيراًَ عن المتآمر ودوره وفعاليته. وفي كتاب آلان دوينو "نظام التفاهة"، كل متآمر في الداخل يحاكي متآمر في الخارج. تدخل ألى متجر قريب لشراء بعض الحاجيات الضرورية لتُفاجأ بأن أسعار المواد والسلع هنا، رغم فروقات العملة وأسماء الدولار الحسنى، هي أرخص من بيروت التي صنفت بين المدن الأكثر بؤساً في العالم. يعني أن أنظمتنا ما زالت تسرقنا بأي شكل ومسوغ وطريقة.

تغتبط هنا لحركة التلاميذ في الاعتراض والتظاهر لأجل غزة وفلسطين. تقرأ في الصحف أن جامعة أوكسفورد قررت تعليم تلاميذ غزة من بعد. وأن تلاميذ جامعة كامبريدج شاركوا في التظاهرات المناهضة للعنف في غزة. وكذلك تلاميذ جامعة لانكستر، نصبوا الخيم في حرم الجامعة. وأن تلاميذ جامعة ايبرسويث في ويلز يتظاهرون أسبوعياً ضد قتل الأطفال في غزة. وتشارك معهم في الاحتجاج، المغنية تشارلوت تشرش، وتغني لأجل فلسطين. وهناك تظاهرة أضاءت ساعة بيغ بن الشهيرة في وسط لندن بعبارة "أوقفوا الحرب في غزة". وهناك حكاية عن سائق المترو الذي هتف مع المحتجين "فلسطين حرة حرة".

وأنت تمشي في شوارع لندن ومطارحها، تفتقد الوجوه اللبنانية والعربية التي غابت مثل خليل رامز سركيس الذي نتذكره بكتابه "من زقاق البلاط الى كنسنغتن". وكذلك تفتقد الشاعر أمجد ناصر ونوري الجراح ورغيد الصلح. وأنا أعبر جسر لندن، تذكرت الروائي ربيع جابر وكتابه الجميل "يوسف الانجليزي"، وكيف أمضى جابر شهراً في لندن وهو يقيس حجم الأحجار والبلاط على الجسر الشهير. الا أنه ومع تزايد أعداد اللبنانيين والعرب في السنوات الأخيرة، تلاحظ أن المؤسسات الثقافية العربية في بريطانيا راحت تقفل الواحدة تلو الأخرى. أقفلت مؤخراً مكتبة الساقي، وقبلها جريدة "الحياة" ومكتبة "الكشكول" ومجلة "بانيبال". وقبل ذلك بسنوات أقفل المركز اللبناني للدراسات في جامعة اوكسفورد والذي كان يديره الباحث نديم شحادة. وحتى هيئة الإذاعة البريطانية أقفلت أبواب خدمتها العربية. وهذا ملمح من أن أخبار بريطانيا ليست على ما يرام.

"كيف كسروا بريطانيا"
يحاجج الصحافي والمذيع البريطاني جيمس اوبراين، في كتابه "كيف كسروا بريطانيا"، الذي يتصدر لائحة أفضل المبيعات، في معنى البريكسيت ونتائجها الكارثية، وماذا عن الاقتصاد المنكمش؟ وماذا عن الدور المتراجع وتردي البنى التحتية والخدمات؟ ويسمي في كتابه، عشرة سياسيين بالاسم، ويتهمهم بأنهم وضعوا بريطانيا على سكة الانحدار المخيف. ومع استمرار الوضع النازف على حاله واستمرار الحرب الأوكرانية والحرب في غزة، تتعادل المسائل وتبدو الانتخابات المقررة في تشرين المقبل بين المحافظين والعمّال بحجم منازلة كبرى تهب رياحها لصالح العمال.

تنظر إلى سماء لندن الملبّدة بالسحب وتعرف أن المطر آتٍ، وتتذكّر "جبل الغيم الأزرق وقمر الندى والزنبق" في لبنان. وأن عليك أن تحزم الحقيبة وتعود إلى بلدك ومواعيدك وليس لك سوى مسافات قليلة في أوطان الآخرين، بحسب سمير عطاالله. تنظر إلى سماء لندن، فإذا هي بلا نجوم. وتتذكّر الشاعر الراحل أمجد ناصر: "نجوم لندن صحراء / ومهن اخر / قليلا قليلا".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها