الأحد 2024/08/18

آخر تحديث: 10:56 (بيروت)

شوقي أبي شقرا لـ"المدن":كنتُ أول من كتب قصيدة النثر

الأحد 2024/08/18
increase حجم الخط decrease
حكاية الشاعر شوقي أبي شقرا هي حكاية الكلمة التي صارت إنساناً. والإنسان الذي صار هو المكان والأثر والرمز والشعر. إنها رحلة ذاتية وجودية جمالية إنسانية، خاضها الشاعر حتى الامتلاء. صنع أبي شقرا مساره في الداخل ولم يستعن بخطاب أو أسطورة. قريته هي أسطورته. شاعر المكانية الجغرافية اللبنانية المفتوحة على المدى الإنساني الرحب. يجلس شوقي إلى شرفته يتأمل القمر. يرسم القصيدة. يفتح النوافذ لهواء جديد يطلع من وادي بيت شباب.
يتذكّر الوالد الذي قضى متدهوراً. مدرسة الحكمة وحلقة الثريا ومجلة "شعر" والرفاق والصفحة الثقافية في جريدة "النهار" وملاحقها، حيث صرف أعز الصرف. ينظر إلى كتبه الشعرية وعددها 14 وكتاب ذكريات وكتاب نثر فني بعنوان "سائق الأمس ينزل من العربة". وصدر له في العام الماضي "حبر ترجمات كالخمر يعتق". وماذا يفعل الشاعر بعد؟ يحتفل بالحياة ويحرك الأرض لزرع جديد ويرش الأرض قمحاً ويرصع السماء بالنجوم. يتحدث حراً عن تاريخ الشعر وفن الشعر وله في المجالين كل النصيب.

- عشتَ في المدينة ردحاً وأكلت الخبز مع رائحة المازوت وعبرت كل معابر الحروب وكانت القرية اسطورة قصيدتك. هل ما زلت قروياً؟
ما زلت قروياً وكنت قبل قليل أسمع صوت الذئب من بعيد. لم أخرج من هذا الإطار ومن هذه المساحة الصغيرة التي أحبّها. ومن الصابون والماء وتلك ساعتي كانت هكذا وكان الوقت غروب والساعة ساعة سجود. مر الذئب ولم يلمحني. لكنه مضى ولا هدير سواي. ورجعت إلى الفلسفة والثياب إلى عريي والماء إلى الدنيا والبخار إلى البحر. وأنا في القرية ورجعت إليها والآن ترجع إلي. والذئب لم يستطع أن يمزقها ولي جزء واسع منها وهو لي. أما الذئب فليذهب إلى الجاهل والأمي إلى من يكتب ولا يدري فك الحرف وما له شرف العنزة ليكونها ولا شرف الحرف ليكون القارىء.
  
- أنت اليوم في هذا المكان تغذ السير. تتذكّر الشعراء والرفاق الذين غادروا. هل تعود الوجوه؟ هل تستعاد القصائد؟ هل يدرك الحنين؟
كل الشعراء الذين غادروا إلى الأوسع ونزلوا عن الصهوة إلى المكان الأخير. كلهم في ذاكرتي وفي حسباني وفي أيامي. وهل الشعراء متميزون وإنهم حقاً كذلك فلا يد من قصر لهم. هم من هم. والتراب هو من هو. وهو الأرأف بنا وبالقصائد وأصحابها. وهو الناعم والطاهر الذي يحفظ الهياكل والأسماء على المعدن وفي الأثير وفي الصفحات. لا أتذكر أحداً ولا أقصد أحداً. أقصد السنديانة والظلال. أقصد البقاء وعدم الشحوب والصحة المكتنزة والقرية والشجرة. ولكن من المدينة من بيروت التي تنهض إلى الهناك. إلى الغبار الذي يملأني والطحين الذي يحط على أهدابي. ونحنّ إلى الكلمة فهي في آخر المطاف آخر الرواق تقع من فوق علي وتوفظني. ومن وقتها لا أنام. 

- وصفت مجلة "شعر" بأنها كانت معملا للترجمة وكانت الترجمة تترى من أسرة المجلة ومن خارجها. كيف تتذكر المرحلة وخصوصا أنك نشرت في السنة الماضية ترجمات أو مختارات شعر لرامبو ولوتريامون... وضعتها لمجلة "شعر" ومضى أكثر من نصف قرن عليها؟
نحن آنذاك ثمرة من الماضي وإلى ملعب المغامرة ونضيف إلى أنفسنا. وترانا نقول عن حالنا انها كانت أجمل حال. وكنا ولا نزال ننفعل حيث الأمر الجيد والجديد. وفي أننا ولو هو العمر ما زال باكراً وعلى مقربة من الشمس وضوء القمر. كانت مجلة "شعر" على حصانها على القلم والموهبة والدقة والاندفاع. ورحنا في الموازاة نترجم النصوص الآتية من هناك وكنا لها في التحدّي والرضا عن الذات. وكنا ولا فلسفة ولا أي مديح ولا أي هوى بل ننزل إلى الكوخ إلى متعة جديدة حيث النار والوهج. وها نحن في كل مرة أمام الدهشة كوننا القطار الذي يحمل الثمار إلى القصيدة القطار، الذي يصيح علينا لنصعد لنكون أيانا ونحمل الشطارة. ونصنع العيد والذي هو صاحب المتعة وسيد القيمة العالية الأغصان. أي فوق الأشياء العادية. وهكذا صرنا إلى الاحتفال إلى حفلة التتويج وإلى تاج المعرفة. بل إلى تاج القصيدة وكأنها الأميرة الجديدة طوال الصلاة وطوال البحبوحة. لماذا أنشر تلك الترجمات؟ إنها تلك الأيام في بيروت وفي مجلة "شعر" في تلك المجرّة والمحراب. أو نحن والمجلة وتلك الخمر تنبع من النفوس المشتاقة إلى حياة جديدة إلى حالة أخرى كأنها العلامة. ولم نهدأ منذ تلك الحقبة إلى أن نحرز حتى الصدى. وهو إشارة لنا ومن الكنز الذي صار إلى الوجود، إلى أن يكون الحقيقة. ولا بد من الميزان ومن الرعشة التي تختبىء في الجسد. ونحن الرعاة ونحن العصا نقود الشعر ونرسل النثر إلى العالم حوالينا. انها المغامرة والغاية والأمثولة والجوهر. والغاية الأولى هي الترجمة التي تنفلت مع الشاطر إلى كأس خمر. ونحن في بحر الترجمة وفي الغيرة والاجتهاد. أنا المشتاق وفي خضم الرحلة إلى الترجمة، إلى تلك الأعمال من قلمي ومن حرصي على ما فعلت هناك في مجلة شعر. نقلت قصائد من الشاعر الفرنسي رامبو عام 1959 وأيضاً ترجمة من الشاعر ريفردي مع نصوص شارحة وكذلك من الشاعر لوتريامون. كيف كانت الترجمة؟ أكاد أقول إن ترجمتي في تلك المرحلة كانت باهظة الكيان للوصول إلى الرضى وحماسة الرضى على العمل. ويبدو لي وأنا في ذياك الوهج وعلى رسلي ذلك المغوار الذي يفتح النص زهوة وشعلة. ورأيت أنني أجيد أيضاً ترجمة الشعراء من نافذة إلى نافذة ومن لغة إلى لغة، وأسبح في القمح وهو يغلي. وهكذا وجدت اللغة وكأنها صاحبة الكيان، صاحبة الأدب الذي من صنعي وبصمتي ووعيي لكل ما جرى. وما أطيبه وما أحلى ما تمّ وما صار.  
 
- ظهر لك في المرحلة الأخيرة كتابات نثرية مثل "سائق الأمس ينزل من العربة "و"شوقي أبي شقرا يتذكر"... سؤالي لماذا ينثر الشاعر شوقي أبي شقرا؟
إنه نوع من المغامرة والتقاط ربما ما لم تستطع القصيدة التقاطه. تنويعات على القصيدة وأكثر. في النثر تستطيع التقاط الفتات والتفاصيل والذرات والتقاط الكومبارس. لأن الحياة تتألف من ملك وملكة وأمير وأميرة وفارس وحبيبة والماركيز والدوقة والكونتيسة والباشا والبيك. وهنا ألملم الأشياء التي تقع خارج السلطان، وهو لا يرى كل الأشياء. السلطان يرى وزيره وقائد الجند والمستشار. ولكن أنا من يرى العسكر والخدم وكل الذين يؤلفون الحياة الحلوة، وأردت أن أجسدهم والتقطهم قبل أن يضيعوا. أريد التقاط العالم الذي فلت من يدي وأنا منهمك في القصيدة.

- لدي سؤال حول قصيدة النثر في مجلة شعر. كيف ظهرت؟ ومن هم أبطالها؟ وكيف احتلت مكانها؟
كنت أول من كتب قصيدة النثر وأول من أطلق المصطلح. في 28 نيسان 1959 نشرت أربع قصائد في جريدة "النهار" تحت عنوان "رب البيت الصغير" وقلت في مطلع القصيدة "القهوة على الأرض ما الصراخ ورب البيت يحزو... من أوحى للزوار أن يأتوا عنده للمحة لسهرة؟ القهوة ثمينة ومعاشه خفيف كمفكرة لا يقوى أن يخدم ويرحب والستائر لا تغطي الشمس والفقر". أحيلك هنا إلى مرجعين، كتاب "خميس مجلة شعر" للباحث جاك أماتاييس السالسي وإلى كتاب "قصيدة النثر وما تتميز به عن الشعر الحرّ" وهناك ترى الخبر اليقين. وفي ربيع 1960 كرست مجلة "شعر" العديد من اجتماعاتها لقصيدة النثر. وبحسب اماتاييس فإن شوقي ابي شقرا أول من نشر محاولة وصفها بقصيدة النثر. وأن أدونيس أول من كتب دراسة عن قصيدة النثر. وأنسي الحاج أول من نشر مجموعة شعرية "لن" مع مقدمة في هذا اللون الأدبي الجديد في كانون الأول 1960.

قصيدة النثر هي نتاجنا، كأننا البوابة في زمن الهوى. وعند هذه الطريق وعند هذه الكلمة الخصبة وضعت القصائد في الضوء والكأس.

سؤال أخير. هل تخاف على القصيدة أم على الشاعر أم على الاتجاه أو تخاف من التشابه الذي يضيع الفرادة؟
هناك خوف على القصيدة وأن يأتي شعراء أقل من القصيدة. وهذا يجعلني أحزن حين أقرأ قصيدة غير ناجحة. ليس هناك أصعب من الفشل في كتابة القصيدة. لا تهمني الاتجاهات بقدر ما يهمني الشعراء. عندما يكون هناك شعراء حقيقيون يصير لدينا اتجاهات. ومن ألوانهم يكثر الارجوان وتكثر الألفاظ. كيف تنجو القصيدة؟ كيفية تركيب الصورة. دائماً أنظر إلى الحركة الفنية للشيء، للصورة واللفتة. والتركيب قبل الموضوع. الكيفية في اللعب على الشكل قبل المضمون. وعندما أقول حركة الشكل فهذا يعني مضموناً آخر. كل الفنون في النهاية تطمح إلى الشعر. طموح كل كتابة أن تصل إلى النفحة الشعرية. واللذّة دائما شعرية. ولا يمكن أن تشفى طعنة الشعر إلا بالغفران.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها