رحل الشاعر الصديق شوقي أبي شقرا. نادته نسمة مهاجرة من الحقل القريب إلى سماء بيضاء ناصعة. التحق بوالده العسكري مجيد الذي مات متدهوراً إلى الصخور الملونة في عين تراز ووالدته منيرة مخايل. ترك الجسد ليلتحق بقصيدة لم تكملها الطبيعة. لم يكن الشاعر عليلاً قبل شهر منذ تخثرت نقطة دم في الشريان. كان يحاول الكلام والاستجابة. يحاول الحياة. ولكن إصابته بالتهاب رئوي مفاجىء أرهق الجسد المتعب.
أمسك غير مرّة بالقلم ولم يفلته بسهولة كما أخبرتني زوجته حلوة. كان شوقي أبي شقرا عليلاً بالرقة ولبث مقيماً على العهد.
عرفته عن قرب منذ العام 1982 منذ بدأت النشر في "النهار" البروتية. كان هو قد أنجز الكثير وبات علما مستحقاً في تاريخ الشعر والثقافة في لبنان. كنت أقدم له مادتي بيد ترتجف. وعندما أجدها منشورة كنت أتعجب بقدرته على الاختزال والحذف والمحو. وتزيد دهشتي حين أجد أن الجملة التي أوجعتني في المقال هي العنوان. كان ساحر العناوين المختلفة والمفاجئة والغريبة في الجريدة لكل المقالات التي تمر تحت قلمه الأحمر.
وكان مع المؤسسين في مجلة شعر وكتب وترجم وشغل منصب سكرتير التحرير. حرر مع أدونيس كتاب "أنشودة المطر" للشاعر بدر شاكر السباب وقبل السباب كل المقترحات المقدمة منهما قبل النشر. ترك شوقي أبي شقرا أوراقه وقصيدته على الطاولة في البيت على صهوة الأمل. ولكن الأيام بخيلة على الأحلام. رحل قبل أن يرى إصداره "حتى ينام الراقدون/ نتسامر نحن والفرقد والشمعة ابنة الارض" ويضم المقالات التي كتبها في" النهار" في وداع الراحلين المبدعين الكبار في لبنان ودنيا العرب (أعذرني يا معلمي انها المرة الاولى التي اذكر فيها العنوان قبل صدور الكتاب).
خاض شوقي أبي شقرا في مساره الشعري في رحلة وجودية غنائية جمالية عمرها أكثر من نصف قرن. كان لديه قاموسه الخاص. لم يستعن بأسطورة من الداخل ولا بمرجعية من الخارج. انتمى إلى المكان إلى القرية إلى الجغرافية اللبنانية كما عاشها وارتوى منها. أعطى للكلمات المهملة في قاموس اللغة خضورا أوفى ودلالات. واستخدم كلمات اللاهوت والمسميات الكنسية في سياق شعري جميل. وظف المفردات القروية في القصيدة. وغرف من تاريخه الشخصي الحزن والطرافة والدهشة والغرابة. وتعلّم كيف يكتب القسوّة من خلال الطرافة.
تصرّف شوقي في اللغة تصرّف الكبار. أتقن الاصول أولا ثم راح يجدّد ويبتكر ولبث على أصالته. وإذا وجد أنّ القصيدة ستشبه غيرها سارع إلى بناء منطق لغوي مغاير يتوهج في صياغة التركيب. يريد أن يفتح النص زهوة وشعلة. لبث شوقي حتى آخر أيامه منفتحاً على التجارب ويسأل عن قصائد جديدة وأصوات نضرة. كأنه يريد أن يتجسس على المسار واتجاهه. وكان يحزن إذا قرأ قصيدة غير ناجحة. ويسأل كيف تنجو القصيدة. آه يا شوقي كم كانت القصيدة صعبة لولا الخيال.
ظل شوقي أبي شقرا في العبارة الشعرية والنثرية صنو نفسه. وإذا كتب جملة او مطلع نعرف أنه شوقي. شعره صلة وصل بين الذات والمكان والروح بين القرية والمدينة والكون. اختصر في تجربته جوهر المدرسة اللبنانية في الشعر والمفتوحة على الاختيار والنقد والتسامح والجمالية. واكتشفنا في صوته صوت التطهر من الاثام والمرارات. صوت الطفولة التي تسكننا كالملح فلا نفسد. صدى الكلمة التي ترن بين الصحو والغمام. وبين الجمال والمستحيل. كان همه ان يعيد الشعر باستمرار الى الحياة.
ينقل شتراوس عن ديدرو هذا الكلام أن على الشاعر التمتع بصفتين اساسيتين الى جانب علاقته المستمرة بالطفولة: الاخلاق والافاق. وهذه العبارة تختصر شوقي أبي شقرا فيما كتب ولعب وسماً.
ها أنا على مدى نصف قرن من الصداقة ارثي الصديق الكبير الذي خسرته. وكنت أتصل به كلما بحثت عن صواب في الصرف والنحو. وكلما استشرته بأمر أو قضية ومدني بالراي الحكيم. وكلما ضاع مفتاح في هذا الكون. كتاب مفتوح هو شوقي عين مياه صافية. عفوي. خفر مع دماثة ريفية رهبانية. تقرأه في القامة الفارعة وصفاء السريرة وطيبة القلب. في حواري الأخير معه قال: الشعراء وهم من هم. لا بد من قصر لهم. والتراب هو من هو. وهو الأرأف بنا بالقصائد وأصحابها. لا يمكن ان تشفي طعنة الشعر الا بالغفران. لكن يا الحبيب شوقي لا يمكن أن تشفي طعنة الغياب إلا بالأمل. كم كانت الحياة مستحيلة لولا القصيدة، لولا الأمل، لولا الحب.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها