يجمع النقاد على أن الرواية العربية ولدت على يد سليم بطرس البستاني (1848_ 1884)، الذي مرت 140 سنة على وفاته. ولا عجب فهو أحد الرواد النهضويين الذين عملوا لأجل تأسيس نهضة عربية في مجالات الإصلاح والثقافة والفنون.
بعد وفاة والده المعلم بطرس، ترأس سليم وهو الابن البكر، رئاسة تحرير مجلة "الجنان" التي كانت مختبره نحو الفن الروائي. وعلى رسله تابعت كل المجلات العربية في تخصيص مساحة للرواية أو لنشر الرواية متسلسلة على حلقات. وهذا ما ساعد الفن الروائي ان يترسخ ويتطوّر في ومن خلال الصحافة. وبذلك يذكر الباحث محمد يوسف نجم "ان سليم البستاني كان نجم الروايات العربية في تلك الفترة وأن دوره كان محفوظاً. وأنه كان الاول في العالم العربي الذي نشر في مجلته فصولاً روائية متسلسلة على غرار المجلات الغربية". ويذهب الدكتور إدوار امين البستاني أبعد من ذلك فيقول في كتابه "من البساتنة في التاريخ والحاضر: "ان سليم البستاني كان الرائد الأول في الكتابة الإعلامية وأول من حلم بإصدار جريدة يومية بالعربية وسعى إلى انشائها. وأول من حللّ السياسة العالمية وأول من عالج بين الكتّاب العرب القصة الأدبية على أصولها وأسسها الفنية الحديثة".
ولد سليم بطرس البستاني في عبيه من أعمال جبل لبنان عام 1848. درس العربية على يد ناصيف اليازجي. أتقن الفرنسية والتركية والإنكليزية. عين مترجماً في القنصلية الأميركية العام 1862 لكنه ما لبث أن ترك عمله والتحق بالصحافة. حرّر مجلتي "الجنة" و"الجنان" التي اصدرهما والده في 1870 و1871. عمل مدرساً في "المدرسة الوطنية" وإدارياً في بلدية بيروت والجمعية السورية. انغمس في الصحافة وكان أول صحافي عربي يصدر صحيفة "الجنينة" أربع مرات في الاسبوع. من مؤلفاته في المسرحيات نذكر: "الاسكندر" و"قيس وليلى" و"يوسف واصطاك" و"بدور" و"اسمى" و"سلمى" و"سامية" ورواية "الهيام في جنان الشام" وأيضاً "تاريخ فرنسا الحديث" و"تاريخ نابليون في مصر وسوريا"... عدا مقالاته في "الجنة" و"الجنان" و"الجنينة ". كما انجز سليم الجزء السابع من دائرة المعارف وطبع الجزء الثامن منها.
لكن ما الذي يميز باكورته الروائية "الهيام في جنان الشام"؟ يجيب البستاني على هذا السؤال في كتاب "حوار مع رواد النهضة العربية" لعصام محفوظ: "ربما كوني اعتنيت بجمعها من صفات الفضلاء والرذلاء والفقراء ولم اترجمها عن أعجمي ولا نقلتها عن عربي وانهيت كتابتها في مدينة بيروت في 29 تشرين الأول 1870". وكيف فهم البستاني الرواية وكيف حددها؟ برأيه "انها مرآة ينظر بها الرجل والمرأة والصالح والشرير والجاهل والعاقل إلى نفسه وغيره..ومما يزيد هذه الأشياء ظهورا هو مقابلتها بما يضادها". أراد سليم البستاني أن تكون الرواية موافقة لروح العصر ومبادىء روح العصر التي هي المساواة والحرية المطلقة التي لا تضر بالغير وتسهل أسباب التقدم.
والحال فقد شهدت مجلته العديد من المناظرات خاصة المناظرة الشهيرة بين الشدياق واليازجي، واللافت أنه لم يتدخل شخصياً رغم تعرّض الشدياق له. ويبرر ذلك بالقول: "إن تبادل الآراء بين رجال الفكر والأدب هو من الامور المستحبة لكن ألا تمسي عرضة للعناد والإصرار والادعاء. لان البشر ما زالوا لا يعرفون أن يتفقوا على أن يختلفوا بدون ان يبالوا بذلك. والإقناع هو القوة التي لها فعل في الانسان العاقل أشدّ من السيف".
اعتبر قلم سليم البستاني أعظم ترجمان لمدنية الغرب في ديار الشرق. لكن الأيام لم ترحمه فقد قسا القدر على هذا النابغة وفاجأه الموت في نوبة قلبية في قرية بوارج ولم يتجاوز السادسة والثلاثين وطواه الردى وهو في ريعان شبابه ولو أمد الله في أجله لترك لنا أضعاف ما تركه من أثاره الخالدة. شيعت جنازته في بيروت ودفن بجانب قبر والده في مقبرة الطائفة البروتستانتية في بيروت.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها