الثلاثاء 2024/05/28

آخر تحديث: 13:02 (بيروت)

دولة سيّدة على حدود معلومة

الثلاثاء 2024/05/28
دولة سيّدة على حدود معلومة
increase حجم الخط decrease
كتاب الحدود اللبنانية البريّة والبحريّة، دراسة تاريخية وجغرافية وسياسية، وصدر عن دار الفارابي في بيروت، للمؤلف اللواء الركن الدكتور عبد الرحمن علي شحيتلي.

اختيار العنوان كان شاملاً للعناوين العديدة التي تحيط بمسألة الحدود الوطنية لكل بلد، ذلك أن الحدود لم تكن عبر تاريخها مسألة تقنيّة فقط، بل كانت قضيّة شعبية تشتبك في ثناياها قضايا السياسة الخارجية مع طموحات النفوذ التي تقتضي أحياناً الحلول في الجغرافيا، وتتطلب أحياناً أخرى، السيطرة على الموارد الخام التي تختزنها تضاريس هذه الجغرافيا.

موضوع الحدود اللبنانية، الذي دار الكتاب على إشكالاتها، تنطبق عليه تلك النظرة الشمولية التي سادت على عملية تشكيل الحدود في أوطان كثيرة، منها ما هو في الجوار اللبناني، ومنها ما هو بعيد عنه، يعود المؤلف إلى التاريخ، ليذكر أن سيرة الحدود خضعت لسيرة السلطات المتعاقبة، لذلك لم تكن ثابتة محدّدة. كان ذلك على سبيل المثال، أيام السلطنة العثمانية، وفي عهد المماليك، ومع إمارة الأمير فخر الدين المعني الكبير، ومع النظام الأساسي، نظام المتصرفية سنة 1861.

يذكر الكاتب عوامل تتدخل في إنشاء الحدود، وفي رسمها، فيربط بين السياسة والجغرافيا، ويحدّد أربعة مفاهيم لتعريف الحدود من حيث نوعيّتها، فيشير إلى إن حدود لبنان تعاقدية في الجنوب، مع فلسطين، ومفروضة من جهة سوريا. كذلك لا يفوت الكاتب التمييز بين تعريفين يتعلقان بالحدود، هما الجغرافيا السياسيّة والجيوبوليتك، ليذكّر بأن لبنان يعاني من وطأة التعريفين بسبب من موقعه الجغرافي، وبسبب الثروة النفطية، التي تختزنها أرضه.

في سياق السرد التاريخي، ذي العلاقة المباشرة بإنشاء الكيان اللبناني بحدوده المعترف بها دولياً اليوم، يتابع الدكتور شحيتلي فيذكر محطات مؤتمرات دولية كان لها الدور المقرر في تعيين الحدود اللبنانية. من تلك المؤتمرات مؤتمر السلام في باريس سنة 1919، ومؤتمر سان ريمو، فمعاهدة سيڤر، هذه التي رسمت مستقبل المنطقة وتقسيماتها، والدول المنتدبة عليها، أي بريطانيا وفرنسا، بعد الحرب العالمية الأولى. على العموم لم يكن الترسيم الحدودي سهلاً، بل كان موضع صراع بين الدولتين المنتدِبَتين، مثلما كان موضع صراع مع الطموح الصهيوني الذي واكب المفاوضات، والذي جرى أخذه في الحسبان من قبل المتفاوضين، فكانت له حصة من الأرض اللبنانية، بعد مساومة خضعت لمصالح الخارج الانتدابي، الذي أعطى وأخذ، من ملك الشعوب التي فرض انتدابه عليها. لقد كان لبنان الحدودي، منذ ذلك التاريخ، وحتى يومه الراهن، على تقاطع الجغرافيا، وعلى تماس المصالح، مع ما يجرّه ذلك من قلقلة كيانية دائمة.

بالإشارة إلى المشاكل الحدودية البريّة مع الجوار، يشير الكاتب إلى الإشكال المستدام مع سوريا. الإشكال هنا له أصل نشوئي، إذ وكما هو معلوم، لم يكن فصل لبنان عن سوريا موضع قبول سوري، وكان موضع رفض من جانب فئات واسعة من اللبنانيين الذين ألحقت مناطقهم بلبنان الكبير. ورثت الحدود إشكالية "الفصل" الذي فرضه الانتداب، في السياق يورد الكاتب حشداً من أسماء اللجان التي أنشئت لترسيم الحدود اللبنانية مع سوريا، ويشير إلى نتائج أعمال هذه اللجان وتوصياتها، ويحدّد الخلافات التي تمّ حصرها على جانبي الحدود، كما يشير إلى مراسلات سورية تؤكد لبنانية بعض المناطق، منها مزارع شبعا مثلاً... لكن الحصيلة من كل الجهد المبذول، وإن بتقطع، كانت تصطدم دائماً بالعامل السياسي السائد بين لبنان وسوريا، وكان ضغط هذا العامل يتبدل حسب الحقبة الزمنية التي كانت تطبعه بطابعها.

على وجه الإجمال، لا يغيب عن المؤلف ذكر أن الحدود كانت وسيلة ضغط سياسي، لجهة فتحها أو إغلاقها من الجانب السوري، وتعريف لبنان كبلد حاجز بين سوريا والعدو الإسرائيلي، جعله "خاصرة رخوة" حسب الفهم السوري.

والنفوذ المتبدّل لسوريا في لبنان، لم يسمح حتى تاريخه بإنجاز ترسيم حدودي بين البلدين، وإذ يضيف الكاتب مسألة هامة لضبط الحدود، هي مسألة وجود سلطتين شرعيتين في البلدين المتجاورين، يستخلص أن الأحداث التي تشهدها سوريا ما زالت تعيق تنفيذ مضمون مسألة الشرعية المنوّه عنها.

على الحدود الجنوبية، أي الحدود مع فلسطين، يحضر ثقل المشروع الصهيوني الذي حكمت حساباته مع لبنان مسألتا الريّ والاستيطان، فكان تعريف أرض إسرائيل طامحاً إلى السيطرة على مصادر المياه، وعلى مساحات واسعة من الأراضي الزراعية. في هذا الموضع يرد ذكر اتفاقية بوليه نيو كامب، في آذار 1923، التي تنازل الفرنسي بموجبها عن 23 قرية لبنانية، وجرى تعيين 39 نقطة لتحديد الحدود بين فلسطين ولبنان، ولم ينفع لاحقاً اعتراف المفوض السامي الفرنسي ساراي، بلبنانية القرى السبع، ثم جاء احتلال فلسطين، ومن بعده الحروب العربية الإسرائيلية المتوالية، لتكتمل السيطرة الإسرائيلية على مزيد من الأراضي العربية ومنها الأرض اللبنانية. كان من شأن ذلك، عدم الالتزام بالخطوط التي أقرتها اتفاقية الهدنة سنة 1949، وكان من شأن التطورات أن تسمح للبنان بخط حدودي جديد هو الخط الأزرق، الذي تمّ التوصل إليه بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من لبنان سنة 2000. لكن الخط الأزرق، غير المتطابق كليّاً مع خط الهدنة، ما زال موضع خلاف في عدد من النقاط، وما زالت قرية الغجر نقطة حدودية متنازع عليها، وحتى تاريخه لم يسمح بتنفيذ كامل بنود القرار 1701، على جانبي الحدود، بل عمد إلى تجاوز أحكامه، باعتدائه المتمادي، على تضاريس البرّ، وفي سعيه الحثيث إلى السيطرة على ثروة البحر، بعد أن انكشف البحر اللبناني عن ثروة نفطية واعدة لأبنائه.

بالانتقال إلى مسألة الحدود البحرية، التي طُرحت بقوة في المرحلة الحالية، يتابع اللواء شحيتلي المنهج التعريفي التقني الذي اعتمده في مسألة الحدود البريّة، فيربط أيضاً بين السياسة والجغرافيا، ويجعل التقنية وسيلة علمية دالّة، على مقاربة الملف البحري مقاربة جادّة، مفيدة ومنتجة، ومساعدة على الوصول إلى النجاح الوطني المطلوب، بالفوز بمساحة الثروة النفطية، وبإمكانية استخراجها، وبالحفاظ عليها.

بدايةً يشير الكاتب إلى إشكالية لبنان في ترسيم بحره مع سوريا ومع إسرائيل، فالدولتان لم توقّعا اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار سنة 1982، هذا وعلى صعيد إنارة البحث، يعمد الدكتور شحيتلي إلى ذكر تعريفات تعيين الحدود البحرية، والمنطقة الخالصة، والجرف القاري، والمنطقة الاقتصادية وحدود المنطقة الإقليمية، ومع التعيين يذكر المسافات التي تبلغها بالأميال البحرية.

أما في حال النزاعات، فيورد الكاتب مراجع لحل النزاعات منها اتفاقية الأمم المتحدة، التي تشدد على أهمية الحلول السلميّة في حال التنازع، ومنها محكمة العدل الدولية، التي تشدّد على الحل المنصف، أي توزيع الثروة بالعدل بين المتنازعين.

لدى التعرّض لمسألة ترسيم الحدود من قبل الدولة اللبنانية، يشير الكاتب إلى محاولة لم تكتمل في الستينيات من القرن الماضي، مثلما يذكر جملة من اللجان والمراسيم التي صدرت حول الترسيم البحري. اصطدم ذلك بعوائق سياسية أساسية، ظلّت تشكل هي باطن الخلاف، وعلى الضد ما كان يطفو على سطح المباحثات الفنية. ضمن المحيط اللبناني البحري، تبدو المسألة مع قبرص هي الأسهل، ومع سوريا يطغى عليها سلوك النظام السوري، فهو مرجع الحل الربط، وفي الجنوب، يكمن الإشكال الأصعب بسبب من طبيعة العدو الإسرائيلي. لقد بات معلوماً، أنّ مدخل البحث في الترسيم مع سوريا، هو دق باب النظام هناك، بعيداً من الوضع الدولي الضاغط، الذي يحاصر النظام في ظل وضعه السياسي الحالي. إذن يطلب السوري من لبنان كسر المقاطعة المفروضة عليه، متوسّلاً في ذلك ما له من نفوذ مقيم في الخطة السورية، ومقيم أيضاً في البنية اللبنانية. 

مع العدو الإسرائيلي، بدا من أكثر من محاولة، أن المفاوض هناك، يسعى إلى جرّ لبنان إلى التطبيع معه، كثمن لتسهيل الترسيم الحدودي، وكممر إلى الترسيم البحري، الذي دار النزاع على تحديده جنوباً، ويدور النزاع على حمايته ومنع سرقته، بعد الاتفاقية التي رعاها المبعوث الأميركي هوكشتاين.

من رحلة التأريخ والترسيم، والخطوط والأرقام واللجان والمفاوضات، يخلص اللواء عبد الرحمن شحيتلي إلى تحديد أساسيات ضرورية لا تستقيم معالجة المسائل اللبنانية من دونها، ولا تتوفر ديمومة متابعتها، في المسألة الحدودية كما في سواها. يرى اللواء أنه في ظل تبدل معطيات الصراع ومواضيعه وموازينه، بات لبنان غير مؤثر جيوبوليتيكياً إلا بالقياس إلى نفطه، وما يزيد من ضعفه موروثاته البنيوية، وأثقالها، في الجغرافيا وفي التاريخ، وفي السياسة وفي المادة البشرية.

هذا كله يبقي لبنان في حالة مخاض عسير، لقيام الدولة، أي لإعادة تكوينها تكويناً يستجيب لضرورات الحقبة العالمية المعاصرة. قيام الدولة الجديدة، يؤمن استمرارية موثوقة مستدامة، وهذا ما يفتقر إليه لبنان اليوم، لجهة التزامات الحكم، وتأمين استمرارية تنفيذها.

لذلك، ولأن اللواء واقف على الحدود، يرى ضرورة إنشاء هيئة دائمة تتبع مجلس الوزراء، أما رئيسها فمخضرم، وأعضاؤها من خارج ملاك الدولة، لتظل حصينة على التدخلات، وهم من خارج القيد الطائفي لضمان وجود الأكفاء، هذه الهيئة، لها صلاحية الاستعانة بخبراء، ومهمتها التفاوض الحدودي، ضمن دولة ذات سيادة، إذ من دون هذه الدولة، لا حدود، ولا من يحدّدون.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها