السبت 2024/02/03

آخر تحديث: 11:40 (بيروت)

نبؤات بارافيتشيني…أنا المصري الذي سينقذ الأرجنتين

السبت 2024/02/03
نبؤات بارافيتشيني…أنا المصري الذي سينقذ الأرجنتين
يكتب بارافيتشيني سطراً أو بضعة سطور شعرية مرفقة برسم كروكي مليء بالأكواد الملغزة
increase حجم الخط decrease
اتفقنا على أن نلتقي في حديقة "المهاجرين الأرمن"، بعد منتصف اليوم بقليل. عادة، من الصعب أن يضرب المرء موعداً في مثل هذا التوقيت، والشمس الأرجنتينية الشهيرة في منتصف السماء، لكن هذا الصيف كان لطيفاً، أو على الأقل كانت درجات الحرارة في يناير، أكثر شهور السنة حرارة، أقل من المعتاد، وبلا أمطار أيضاً. من على مسافة، رأيت كارلا ماركيز جالسة على أحد مقاعد الحديقة في سكينة وفي يدها كوب المتة. كارلا ماركيز ليس اسمها الحقيقي، بل اسم للتخفي استخدمته أثناء عملها السياسي في تشيلي، وحين يستخدم أحدهم اسم حركياً، من الأصوب ألا يسأله المرء عن السبب، لذا لا أعرف ما كانت تفعله كارلا في تشيلي، أو بالأحرى لم أكن مهتماً.

كانت كارلا ترتدي قميصاً رجالياً واسعا بأكمام قصيرة، وعلى وجهها ابتسامة وديعة لم أتوقعها منها. بدت صديقتي القديمة في أفضل نسخة من نفسها، منذ التقينا للمرة الأولى قبل سبعة أعوام. ما جعلني أشعر ببعض الحزن، هو شعرها الذي غزاه الشيب، في أربع أعوام فقط منذ لقائنا الأخير في بوينس إيرس، ظهرت عليها علامات تقدّم العمر دفعة واحدة، ويمكن قول الأمر نفسه عني، ولعل ذلك سبب الحزن. أخبرتني كارلا إنها تعرضت لانهيار عصبي بعد أسابيع من إغلاق الكورونا، وكانت تلك فترة عسيرة، لكنها تغلبت عليها. كنت أعرف ما حدث من أصدقاء مشتركين. اخترت حينها أن آخذ مسافة في صداقتنا، فكارلا حينها أبدت سلوكيات هوسية مزعجة، في الليلة الواحدة ترسل عشرات الرسائل الصوتية الطويلة، بمحتوى واحد في حركة دائرية تتكرر، ثمة كارثة بيئية ونحن جميعاً على جرف النهاية، وعلينا أن نتحرك، الشعوب اللاتينية والشعوب العربية وغيرنا. والأمر الأكثر إزعاجاً إنها كانت تنتظر مني رداً بشأن إنقاذ العالم.

"نحن لسنا أرستقراطيين… كنا نظن ذلك أو على الأقل ندعيه، لكننا في الحقيقة فلاحين"، تردد كارلا بصوت رزين. تمتلك العائلة التي تعود أصولها إلى الحملة الإسبانية الرابعة على الأرجنتين، أراضي شاسعة في الجنوب الغربي للبلاد. بعد الكورونا، انتقلت كارلا إلى الريف لتعتني بأراضي العائلة، تقضي ثلاثة أسابيع في منزل كبير وحدها تماماً، ثم تعود لتقضي أسبوعا في العاصمة. تقول لي إنها تشعر بالوحدة هناك، لكن يعمل لديها ثلاثة من الغاوتشو (رعاة البقر الأرجنتينيين)، وهي تطور مشروعاً لتشجير الغابة القريبة بغرض الاستمطار بوسائل عضوية. كانت كارلا محقة في هوسها، ضرب التغير المناخي الأرجنتين بتبعات كارثية. في العامين الماضيين، عانت البلاد جفافاً شديداً تسبب في انهيار اقتصادى شبه كامل. قبل أسابيع من وصولي، قررت حكومة ميليه، الرئيس المنتخب حديثاً، خفض قيمة البيزو بنسبة 50 في المئة، واستيقظ السكان ليجدوا مدخراتهم وقد فقدت نصف قيمتها في ليلة واحدة. لا أحد هنا يتكلم عن شيء سوى الأزمة الاقتصادية. تقول لي كارلا: "قلت لكم جميعاً مرات كثيرة، لكن أحداً لم يستمع". 


تخرج كارلا مجموعة شعرية للكاتبة والمترجمة الأرجنتينية، سيسيليا بافون، بعنوان "يوميات شخصية مختلقة"، وتهديني إياه. افتح الكتاب بشكل عشوائي وأقرأ قصيدة عن الأشجار، وننظر إلى الشجرة الهائلة التي تظللنا. وابتسم في سرّي: "كارلا تصلح لأن تكون شخصية مختلقة بالكامل".

مضى اللقاء على نحو جيد حتى شرعت كارلا تخبرني عن المؤامرة التي تجهزها الطبقة السياسية لاغتيال الرئيس الأرجنتيني الجديد، ومن ثم الانقلاب على الديموقراطية. لم تكن أفكارها مشوشة أبداً، بل واضحة ومرتبة جداً. لكني شعرت بالحرج قليلاً حين أخذت نظرية المؤامرة منحى آخر، أقرب إلى معاداة السامية. بحسب كارلا، تحول ميليه إلى اليهودية قبل زمن طويل، وينتمي إلى طائفية صهيونية سرّية تسعى لحكم العالم وإشعال حرب "أرمغدون" ليظهر المسيح، تلك الطائفة هي نفسها التي نشرت اخباراً قبل أيام عن حفر أعضائها أنفاقاً تحت معبدهم في نيويورك. ثمة رجل غامض يلازم الرئيس الجديد في كل تحركاته، هو مرشده الروحي من تلك الطائفة وحارس شخصي في الوقت نفسه، وهو من يوجهه سياسياً. تقول شيئا عن مخطط لسرقة مياه الأرجنتين ونقلها إلى إسرائيل، وعند تلك النقطة من الحديث ينتابني اليأس من إمكانية حفظ الحديث في الحد الأدنى من العقلانية.

سرعان ما خرج الأمر عن السيطرة. تغيرت ملامح كارلا، وظهرت عليها علامات الإثارة، وهي تخبرني عن نبؤات الفنان التشكيلي والمتنبئ الأرجنتيني نصف المعروف، بنيامين سكولاري بارافيتشيني. الرجل المولود نهاية القرن التاسع عشر، يدّعي المؤمنون به أنه كان قادراً على التنبؤ بالكثير من الأحداث التاريخية، من إطلاق المركبة الفضائية سبوتنك 2 والثورة في كوبا إلى حرب السويس و11 أيلول.

بحماس لم يفسد صفاء ذهنها، تخبرني أن بارافيتشيني تنبأ بشكل دقيق بوصول ميليه إلى الحكم وكل الكوارث التي ستحلّ بعدها على الأرجنتين. هناك حرب عالمية ثالثة ستندلع قريبا في أوروبا، وسيهرب الملايين إلى الأرجنتين ليحتموا بها من ويلات القتال. تفتح كارلا هاتفها وتطلعني على واحدة من نبوءاته، يكتب بارافيتشيني في العادة سطراً واحداً أو بضعة سطور شعرية مرفقة برسم كروكي مليء بالأكواد الملغزة. يحتاج التأويل إلى فهم متأنٍ لما يقوله النص وما تقوله الصورة، وما لا يقال بينهما. 


"ستشتعل النار في مصر. مصر سوف تقود. مصر ستقتل. مصر ستتحدث في الأرجنتين". 
تريني كارلا رسوماً لنبؤات أخرى عن مصر. تتكرر فيها أشكال رجال يرتدون زي البطاركة الأقباط بعمامة الرأس العالية المميزة. ثمة مهرج سيحكم في بوينس إيرس وسيُقتل. ومن ثم تفاجئني بالقول إنها درست تلك النظريات كلها، وحين تجمع شذراتها، تجدها تشير نحو شخص واحد: هو أنا. أنا فقط من يستطيع أن ينقذ الأرجنتين. يجب أن أكتب عن ميليه وعن المؤامرة الصهيونية والحرب العالمية الثالثة، وإذا فعلت، سيبطل السحر.

أضحك فيما أخبرها: إن كان هناك ما يربط بين بلدينا، فهو إن الأرجنتين أكبر مقترض من صندوق النقد، ومصر بعدها مباشرة في المركز الثاني. تضحك هي أيضاً: "أخبرتك، مصيرنا مشترك". أعود لأحذرها: لو كتبت عن الأمر، ستبدو هي المجنونة في النص. وتجيبني بالموافقة مع هزة رأس: "لا يهم، لكن اجعلني مجنونة من النوع الطيب، وليس من النوع الشرير".

في طريق مغادرتنا للحديقة، تلفت نظري الأمهات الروسيات مع أطفالهن شديدي الشقرة من حولنا. منذ الحرب الأوكرانية، توافدت عائلات روسية كثيرة للولادة، حتى يحصل أطفالهم على الجنسية الأرجنتينية، والوالدان على إقامة في البلاد. بدأ التدفق الروسي منذ الحرب الأوكرانية السابقة، إلا أن الظاهرة أصبحت أكثر ظهوراً مع الحرب الجارية. لعل واحدة من نبؤات بارافيتشيني قيد التحقق بالفعل. 



في المساء، ترسل لي كارلا عشرات الروابط بخصوص حديثنا. قصة ميليه وطائفته الغريبة، وكذلك مرافقه الغامض كلها صحيحة. ثمة ضجة بالفعل حول عقود منحتها الحكومة الأرجنتينية لشركة المياه الوطنية الإسرائيلية، ميكوروت، بخصوص استشارات تقنية لإدارة الموارد المائية. يخشي المحتجون من تكتيكات الشركة الإسرائيلية في الاستيلاء على مياه الفلسطينيين، والتي سيتم تفعيلها ضد المجتمعات المحلية في الأرجنتين لصالح الاستثمارات الكبرى. اقرأ تقريرين عن "حركة المقاطعة" بين المزارعين الأرجنتينيين ضد إسرائيل. تفسيرات كارلا للنبؤات بخصوص مهمتي المقدسة لإنقاذ العالم، ليس مقنعة تماماً، لكنها ليست مستحيلة. أتردد في الكتابة عن الأمر.

لاحقاً، أحضر مع كارلا أول مظاهرة كبرى ضد سياسات ميليه التقشفية. بالصدفة، نجد أنفسنا وسط الطابور "البيروني"، والمحتجون يرفعون صور إيفا بيرون ومارادونا. بعدها بأيام، غادرت كارلا إلى الريف.

ليلة أمس، وفي تمشية مع صديق آخر في وسط المدينة، توقف وأشار إلى ركن في شارع 9 يوليو، ليخبرني بجدية: هنا اختطفت الكائنات الفضائية صديقك بارافيتشيني، يمكنك أن تكتب عن هذا أيضاً. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها