يصادف شهر آب/أغسطس الحالي، الذكري الخمسين لبزوغ ثقافة الهيب هوب في إحدى ضواحي مدينة نيويورك. ما بدأ كحفلة موسيقية صغيرة من تنظيم وحضور شباب أميركي من أصل أفريقي في حيّ نيويوركي فقير، سيصبح على مدى العقود الخمسة اللاحقة، إحدى الحركات الثقافية الأكثر تأثيراً في القرن الماضي، ليس في الولايات المتحدة وحدها ولا في المجال الموسيقي فحسب، إنما في الفنّ، كما في الموضة، واللغة، والمجتمع.. والسينما بالطبع.
تشكّلت موسيقى الهيب هوب في السبعينيات كحركة تحت أرضية underground، وتوسّعت لتشمل أشكالاً فنية مختلفة وأنواعاً موسيقية فرعية، أبرزها موسيقى الراب على وجه التحديد باعتبارها واحدة من أكثر الأساليب الموسيقية شعبية بين شباب اليوم. ومثلما يمكن لبَيت شِعري أو جملة موسيقية في أغنية راب، أن ترسم صورة حية نابضة، يمكن لكاميرا الفيلم أن تحكي قصّة جذّابة بالقدر ذاته. جمعهما وتقاطعهما معاً يفضي إلى عالم واسع من الاحتمالات الإبداعية والتأثيرات الثقافية. لكن في البداية، لم تظهر الطبيعة "الراقية" والمشحونة بالجماليات الفنية "الرفيعة" لمرئيات الهيب هوب الشعبية الرائجة حالياً، بين ليلها وضحاها. فقبل أن تبدأ هذه المنتجات الثقافية (الفيديو كليب تحديداً) في تبنّي سِمات فيلمية لسرد قصص مستندة إلى الحكي، وبعدما تخلّصت الموسيقى نفسها من السمعة السيئة المرتبطة بها؛ أرست فيديوهات موسيقى الهيب هوب الأساسيات: الموسيقى الحيّة وغناء الراب والجمهور المهول؛ المكونات التي ستصبح لاحقًا عناصر أساسية كلاسيكية لتعريف النوع وتحديد هويته.
كان هذا هو الحال مع أغنية ""
Rapper’s Delight لفرقة The Sugarhill Gang، أول أغنية هيب هوب مشهورة مصحوبة بفيديو موسيقي. كانت العناصر المرئية، في جوهرها، تسجيلاً لأداء حيّ أثناء غناء الفرقة في حانة The Soap Factory Disco في نيو جيرسي. لكنه كان حاسماً في تسليط الضوء على شيء خاص: موسيقى جديدة تتشكّل، والأهم أنها تتخلّق أمام السامعين/الناظرين. كان هذا الفيديو في الأساس محاولة لالتقاط موسيقى الهيب هوب في طورها الخام. فالهيب هوب، قبل كل شيء، لم يبدأ كشكل موسيقي، بل كحدث ثقافي. كان شيئاً يفعله الناس، وليس شيئاً يستمعون إليه.
أعطى تصوير الفضاءات والبيئات السوداء، سمة مميزة لمقاطع فيديو موسيقى الهيب هوب ميّزتها بشكل واضح عن مقاطع الفيديو الخاصة بالأنواع الموسيقية الأخرى. على وجه التحديد، تتضح هذه الميزة في أغنية "The Message" لفرقةGrandmaster Flash & The Furious Five's ، الذي قدّم مقطع الفيديو الموسيقي الخاص بها لمحات من الفقر والصراع داخل المدينة أبرزها في كلمات الأغنية، بينما قام الفنانون بغناء أشعارهم (الراب) في شوارع مدينة نيويورك التي اتخذوهها منزلاً ومقاماً. هنا، سترى المساحات الحضرية، وسترى السّود والملونين في قلب القصص. سترى مجموعة واسعة من العروض الثقافية.
تماماً كما فعلت هوليوود
مع سينما استغلال السود (Blaxploitation Cinema)، ذلك النوع السينمائي البازغ في أوائل عقد السبعينيات؛ اهتمت صناعة السينما الأميركية بالسوق الواعد للشباب السّود التواقين لرؤية أنفسهم (وممثليهم) في الشاشة. أفلام مثل "Krush Groove" (1985، مايكل شولتز)، عن الأيام الأولى لتسجيلات "ديف جام" ومنتج التسجيلات الصاعد راسل سيمونز، أو "Breakin '2: Electric Boogaloo" (1984، سام فايرستنبرغ)؛ جاءت براقصين ومغني راب مشهورين إلى الشاشة الكبيرة وصالات السينما في الأحياء الفقيرة التي بدأ منها هؤلاء.
لكن العلاقة الإبداعية بين موسيقى الهيب هوب وأشكالها المرئية تطوَّرت إلى أبعد من ذلك، حيث بدأ هذا النوع التأثير في إنتاج الأفلام الروائية، كما يظهر جلياً في الفيلم الرائد "إفعل الشيء الصحيح" (1989، سبايك لي). صُنع الفيلم مع وضع الهيب هوب في الاعتبار، إذ كلّف المخرج فرقة الراب Public Enemy بكتابة أغنية الفيلم الرئيسة، "Fight The Power"، التي يمكن سماعها طوال مدته. تعمل الأغنية بشكل متزامن مع الموضوعات العامة للفيلم عن اضطهاد وشدائد السود في أميركا.
في الفيلم، كان البطل، راديو رحيم، يملك مشغّلاً موسيقياً محمولاً يأخذه معه أينما ذهب، وكان يلعب الأغنية إياها طوال الوقت. وعبر هذا الاقتراح حاول المخرج، في هذه اللحظة بالذات من عمر الولايات المتحدة، إظهار الطريقة التي كان يُنظر بها إلى الحياة السوداء كعبء يجب التخلص منه أو كوجود نافل يمكن التخلص منه. في حركة مقاومة، استخدم سبايك لي، المشغّل الموسيقي المحمول، وأعاد إسماع المشاهدين أغنية "Fight The Power" طوال الفيلم، لتذكيرهم بأصوات الحياة السوداء. بتطوّر الفيلم، سيشير التدمير المادي للمشغّل الموسيقي إلى نقطة تحوّل عاطفية، تومئ إلى مشهد الموت النهائي لشخصية راديو رحيم مع اختفاء أصوات الحياة السوداء، بالمعنى الحرفي والمجازي.
ومع اتساع دائرة موسيقى الهيب هوب وحضورها كثيمات موسيقية وزخارف في الأفلام "السوداء"، بدأ فنانو الهيب هوب أنفسهم ظهورهم في الشاشة الكبيرة بشكل أكثر بروزاً في التسعينيات، حيث لعبوا أدواراً مميزة في عدد من الأفلام الجماهيرية. أفلام مثل "Boyz n the Hood" و"Juice" لم تكن عن موسيقى الهيب هوب بشكل أساسي، لكن ظهور مطربي راب في الشاشة مثل آيس كيوب Ice Cube وتوباك شاكور Tupac Shakur (بطلا الفيلمين، على التوالي) سهَّل إدراج مثل هذه الأفلام تحت مظلّة الهيب هوب. ولا يعود سبب هذا التضمين إلى الموسيقى التصويرية للفيلم مثلاً، بل إلى شريطه الصوتي ككلّ، اللغة الملفوظة في محادثة شخصية مع أخرى؛ هي ما جعلت هذا التصنيف ممكناً. لا يغنّي كيوب الراب في الفيلم الأول، وبالمثل لا يفعل توباك في الفيلم الثاني، لكنهما يعملان تقريباً مثل قناة، تأتلف الموسيقى من حولها.
مع دخول الألفية الجديدة، وصلت موسيقى الهيب هوب وأشكالها المرئية إلى آفاق جديدة من التقدير في أوائل العقد الأول من القرن الـ21، عندما فاز فيلمي "8 Mile" و"Hustle and Flow" بجوائز أوسكار لأفضل أغنية أصلية عن أغنيتي "Lose Yourself" لإيمينيم و"It’s Hard Out Here for a Pimp" لفرقة Three 6 Mafia، على التوالي. ساعد هذا الاستقبال النقدي في ترسيخ مكانة هذا النوع في الثقافة الشعبية، فقد كان يُنظر إلى موسيقى الهيب هوب في السابق باعتبارها أحد عناصر الثقافة الشعبية الزائلة والمتغيّرة سريعاً، حيث ظلّ الاعتقاد السائد حولها لفترة طويلة أنها بدعة عابرة. لكن الوقت – بوتقة الاختبار الأكثر نجاعة وكشفاً – يشهد على أننا نعيش الآن مرحلة لا توجد فيها سوى أجزاء قليلة جداً من المجتمع والثقافة الأميركيين (ومن ورائهما العالميين) لم ولا تتأثر بطريقة أو بأخرى بالهيب هوب.
اليوم، تقف موسيقى الهيب هوب على قدم المساواة مع الأفلام المصاحبة لها، كما ظهر في فيلم مارفل للمخرج ريان كوغلر العام 2018 بعنوان "النمر الأسود"، والذيّ قدّم ثورة صغيرة في عالم الأبطال الخارقين ومسعى هوليوود والاستديوهات الكبيرة من أجل "التنوّع" ورفد قصصها بألوان وأعراق أخرى. وضع المغنّي كندريك لامار، الموسيقى التصويرية للفيلم، ما جلب بدوره استقبالاً نقدياً وثقافياً إيجابياً، ففازت الأغنية الملهمة للفيلم "
All The Stars" بترشيح أوسكار لأفضل أغنية أصلية.
يعمل هذه التعاون الفني بين عالم السينما والموسيقى على رفع مستوى الهيب هوب والفنّ الأسود بشكل عام. ومن وجهة نظر سوداء، ربما يشكّل حضور الهيب هوب في الموسيقى التصويرية للأفلام الضخمة والجماهيرية، عاملاً في بناء إحساس بالانتماء للمجتمع، لا سيما داخل مجتمع الهيب هوب والسود.
شيء من العدالة الشعرية يتضمّنه المعنى الأخير، فالحركة الثقافية التي نشأت ردّاً على الظلم والعنصرية اللذين تعرّض لهما الأميركيون السود من البيض، أفضت بعد 50 عاماً من ظهورها إلى تشكيل نوع من الاتحاد والاتصال بين السود في أنحاء الولايات المتحدة، مثلما بين المهمّشين والمظلومين في أنحاء العالم للتنديد بما يتعرّضون له، وكنوع من التعبير عن الذات ضد المشاكل المجتمعية مثل الفقر والبطالة والعنصرية والظلم.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها