القواعد التي تحكم حدود العمل العسكري في الحرب لا تتبعها الجيوش المتصارعة عادةً، وذلك لأن المصالح الاقتصادية المباشرة، والمطالبات بالسيطرة الإقليمية، وطريقة عمل صناعة الأسلحة، تتمتّع بقوة معيارية أعظم من ميثاق الأمم المتحدة. وعلى هذا تولّد الحروب قواعدها الخاصة عندما تخوض البلدان حرباً، ليس فقط بسبب القوة العسكرية المستخدمة ــ التي أصبحت خاضعة لسيطرة متزايدة من على بُعد ــ بل وأيضاً بسبب قدرتها على تنظيم المعلومات لتشكيل رأي عام يطيع أهدافها. لكن القواعد التي تنظّم الحروب تشكل أهمية بالغة "لما بعد الحروب"، عندما يستخدمها المنتصرون لمعاقبة الخاسرين من منظورهم المنتصر، مستخدمين لأنفسهم نفس قواعد القانون الإنساني التي انتهكوها بالتأكيد أثناء الحرب. ثم يفسّرونها لجعل وجهات نظرهم الإنسانية أكثر (أو أقل) هيمنة، وأكثر (أو أقل) ملاءمة لغاياتهم، ويستكشفون دوماً الحدود بين ما هو همجي وما هو حضاري.
كانت الحرب الوسيلة الرئيسية لحلّ الخلل بين بنية النظام الدولي وتوزيع القوة، أو بالأحرى ما نسمّيه حرب هيمنة. كما تشكّل قواعد القانون الدولي الطريقة التي يتمّ بها تحقيق هذه الهيمنة، كما هو منصوص عليه في اتفاقيات جنيف (1949) وغيرها من البروتوكولات الإضافية، التي تتناول أساليب الحرب، و"وسائل" شنّها وحماية بعض المعدّات والمؤسسات و"فئات من الناس" يجب حمايتهم من الهجمات العسكرية.
المحكمة الجنائية الدولية، المنشأة بموجب معاهدة روما في 1998، تحاكم الأفراد الذين يرتكبون جرائم حرب، لا الدول التي يمثّلونها في سيناريوهات الحرب. ومع ذلك، لا تتدخلّ المحكمة الجنائية الدولية إلا عندما تثبت الدولة الوطنية التي يتحدر منها المجرم المحتمل أنها تغطّي جرائم الحرب، وتقدّم نفسها على أنها غير كفوءة أو غير راغبة في محاكمة الشخص، وفقاً لمعايير القانون الإنساني. التمييز بين المدنيين والعسكريين، والهجوم المتناسب، والإجراءات الاحترازية (لتجنيب السكان المدنيين) هي المبادئ الأساسية الثلاثة "للإنسانية" في الحروب.
في واقع الأمر، تشكّل القواعد "الإنسانية" للحرب تناقضاً ــ من الناحية المادية والشكلية ــ لأن الحرب في حدّ ذاتها عامل/عنصر تاريخي عالمي للتدمير الإنساني يعود به إلى طبيعته الحيوانية. سؤال لا يمكن إسكاته: هل سيخضع بنيامين نتنياهو ذات يوم للمحكمة الجنائية الدولية؟ من الناحية الشكلية، سيعتمد هذا على "الطبقة السياسية" الإسرائيلية بعد إزاحته عن السلطة (إن حدث هذا أصلاً) لأن القرارات المتعلقة بمستقبل رئيس دولة يرتكب جرائم من أي نوع ستكون دائماً تابعة، أكثر من كونها خاضعة للتحديدات الدستورية أو القانونية، للعهد السياسي المهيمن على دولة معيّنة.
الأداة الرئيسية للدفاع عن القادة من مرتكبي جرائم الحرب في الحداثة الليبرالية الديموقراطية هي مفهوم "الأضرار الجانبية"، أي "الضرر" اللاحق بأشخاص - مجموعات أو أحزاب - ليسوا أهدافًا عسكرية، لكنهم يعانون آثار الحرب في الحدود غير الدقيقة بين العمل العسكري ضد هدفٍ مشروع - مادي أو سياسي - ومساحة الحماية المدنية أو العمرية أو الجسدية، والتي ليست هدفاً عسكريًا بحكم التعريف. وعلى الرغم من أنها منظمّة بموجب القانون الإنساني الدولي، فإن "الأضرار الجانبية" تظلّ "عذراً" قانونياً وسياسياً لكل من المنظمات شبه العسكرية التي ترتكب أعمالًا عنيفة ضد أعداء قضيتها، وقادة الحرب، الذين تحدّدهم الدولة الوطنية.
هؤلاء يحدّدون تناسب أفعالهم وفقاً لضرورة الدفاع عن أنفسهم أو قضيتهم. لكن ما الفرق ـ كما يتساءل المنطق السليم ـ بين النساء والرجال، والمدنيين، والأطفال، وكبار السنّ، والمرضى، والشباب الذين لقوا حتفهم في هجوم "طوفان الأقصى" (سواء بأيدي مقاومي حماس أو برصاص الإسرائيليين أنفسهم)، وبين المجموعة البشرية التي عانت العنف العسكري الناتج عن ردّ الفعل الإسرائيلي، في ما تسمّيه وسائل الإعلام السائدة "الحرب ضد حماس"؟ فروق كثيرة وكبيرة، لكن في هذا الصدد ثمة فرق عددي في حصيلة الوفيات، سواء بسبب "الأضرار الجانبية" أو بسبب القرارات السياسية غير المتناسبة التي اتخذت لتحقيق أفضل نتيجة للصراع العسكري.
وعلى هذا، يشكّل مفهوم "الأضرار الجانبية" فئة من فئات السياسة، المتشكّلة في إطار العلاقة بين الدول لإضفاء الشرعية على الحروب، وليس فئة قانونية، تشكّلت في إطار النظرية القانونية، لأنه من المستحيل فهم فعاليته المادية خارج علاقات القوة السياسية والقوة العسكرية بين الدول ذات السيادة، التي تحلّ صراعاتها بالقوة، وليس بالقانون، بعد أن تخوض الحرب بالفعل.
في هذه الحالة، تزعم كل دولة أن "العدل" (من "الحرب العادلة"، وهو مفهوم يعود إلى العصور الوسطى) يقف إلى جانبها، وليس إلى جانب العدو. ولأن مفهوم "الأضرار الجانبية" أكثر ملاءمة للسياسة منه للقانون، يمكن توسيع نطاقه ليشمل السياسة، عندما يكون أبطاله أقرب إلى العنف منهم إلى الحجج، وأكثر ميلاً إلى نشر الكراهية منهم إلى العقلانية الطبيعية للقتال الهادف إلى تحقيق مصلحة عامة. فما بالنا إذا كانت الدولة المعنية سرطاناً مزروعاً في قلب منطقتنا لا يكتفي إلا بتحقيق أوهامه الكتابية حتى إن راحت في سبيله "أضرار جانبية" لا تحصى!
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها