السبت 2023/06/10

آخر تحديث: 13:15 (بيروت)

لماذا تتميَّز اللبنانيّات بالإغراء؟ لقد أحرزنا تقدّماً... الهجرة والإندماج(2/2)

السبت 2023/06/10
لماذا تتميَّز اللبنانيّات بالإغراء؟ لقد أحرزنا تقدّماً... الهجرة والإندماج(2/2)
عارضة الأزياء اللبنانية نور عريضة في مجلة "فوغ"-الطبعة الفرنسية
increase حجم الخط decrease
رأينا في مقالةٍ أولى (25/5/2023) كيف تناول إيف لوباسكور في القسم الأوّل من كتابه "لماذا تتميّز اللبنانيّات بالإغراء؟" تاريخ الشرق الأوسط في القرن العشرين وعلاقاته بالغرب وتأثّره به سلباً أو إيجاباً. وفي هذا المقال نتناول القسم الثاني الذي أعطاه عنوان "لقد أحرزنا تقدّماً"، وقد عالج فيه مسألة الهجرة والاندماج، قضية الساعة المتفاعلة في أوروبا، وفي فرنسا خصوصاً.

يذكر إيف لوباسكور أنّه منذ كتابة "اللبنانيّات" (2004)، والشرق والغرب يأملان أن تتحسّن بشكلٍ أو بآخر، الأوضاع المأزومة والمنذرة بالأخطار. لكن الأمور تطوّرت كثيراً وتقدَّمت نحو الأسوأ، كما يوحي الكاتب بعنوان القسم "لقد أحرزنا تقدّماً".

يلفت لوباسكور إلى أنّه أصبح من الثابت أنّ الشرق في حالة انهيار ونقمة، ونتيجة ذلك تكثّفت إلى حدّ كبير هجرة أبنائه إلى مختلف أصقاع الأرض، ويمكن القول إنها "روحة بلا رجعة" لقد رحلوا وألقوا المفاتيح بكلّ بساطة، ولأن "البلاد لم تعد بلاداً" فوداعاً يا أرض الأجداد.

المُقتَلَع من جذوره وحشٌ تعيس
وفي الغرب الذي يعيش موته الخاص، يلحظ الكاتب أن الأوروبيّين، ولأسباب متعدّدة، وكل فئة بحسب قناعاتها ومصالحها، يغتبطون بوفود الشرقيّين المهاجرين، من دون أن يتنبَّهوا إلى ما يعيشه هؤلاء المقتلَعون من أرضهم من نقمة وألم وخزيٍ وعار، يجعلهم يعملون، في ظلّ ظروفٍ غير مؤاتية وفي خيبة أملٍ من واقعهم الجديد، على تدمير الحضارة الغربيّة، انتقاماً من هذا الواقع. ويذكّر الكاتب بمقولة الفيلسوفة الألمانيّة سيمون فايل (Simone Weil): "المُقْتلَع يقتلِع"، ويضيف: "ليس المقتلَع تعيساً وحسب، إنّما هو وحشٌ تعيس".

المغتبطون والمرتعبون من موجات الهجرة يخشون النتيجة نفسها: عدم صمود أوروبا. علماً أن هناك ما هو أخطر عليها، مثل الخطر البيئيّ والأسلحة التكنولوجيّة الجديدة والمعالجات العلميّة المتخطّية للبُعد الإنسانيّ، وما مسألة الهجرة إلا من نوافل الأخطار. لكن مواقفهم هذه تبيّن طبيعة علاقتهم بحضارتهم، ما بين فرحين بزوال أوروبا القديمة ومن يتمسَّكون بها علماً أنّهم هم أنفسهم مُقتلَعون في الأساس (مع تهاوي أسس حضارتهم في سياق نظام العولمة) ويعمدون إلى استهلاك الأصول أو الجذور (أي ما يمتّ إليها بصلة من ألبسة ورموز) معتقدين أنّهم بذلك يحافظون على هوّيتهم، علماً أنها جذور مزيّفة تتحوّل قشرة سميكة يلتحفون بها.

ويؤكّد لوباسكور أنّ المُقتلَع أساساً لا يمكنه صناعة حضارة جديدة ولا استعادة حضارة أصليّة، فالانتماء إلى حضارةٍ ما لا يكون باستهلاك رموزها، بل بالانطباع بها والتشبّع منها من دون معرفة كيف ولماذا. والحال أنّ الساعين وراء ذلك، كما نرى عند المتعصّبين للهويّة الإسلاميّة أو الفرنسيّة أو الإيطالية او الإنكليزيّة أو المسيحيّة، يغرقون في الرموز التي تتحوّل مواد استهلاكيّة تنهمر عليهم، ماركات ذات نفوذ وقوّة تهبط لا يُعرف من أين وممّن، فيصبح الدِين ماركة والأمة ماركة، وهم يتنكَّبون بهارجها.

وإذ يبدي لوباسكور استغرابه عدم التفاهم على بعض الأفكار البديهيّة في ما يتعلّق بالهجرات الجديدة، يرى أنّ هناك ثلاث مُسلَّمات بديهيّة تفرض نفسها:
الأولى هي أنّ المهاجرين هم بشرٌ والتعاطف معهم أساسيّ ومبرَّر، وهذا ما بدا جليّاً في موقف بابا روما الداعي إلى ذلك حتى وإن أزعج البعض.

المُسلَّمة الثانيّة هي أنّ الهجرة ليست خياراً مُرضِياً ومريحاً. فلا أحد يهاجر من أجل المتعة، ومَن يراها من هذه الزاوية فإنما يفعل من باب المصلحة الخاصّة. لقد أصبحت صورة المهاجر في أوروبا أسطوريّة حتى غُيِّرت التسمية وباتت لها دلالتها المختلفة. حلّ مُصطلَح "Migrant" "المُترحِّل" (مثل البدو الرُّحّل) مكان المُهاجر والمغترب أو المتغرِّب "L’émigrant ou émigré, et l’immigrant ou immigré" المترحّل الذي لا يثبت ولا يستقرّ في مكان فهو في تنقّل مستمرّ في ظلّ الرأسماليّة المعولمة، كما نلحظ في تنقّل أو ترحّل الموظّفين وحتى الطّلاب من دولة إلى أخرى بحسب مقتضيات الوظيفة والعمل ومصلحة الشركات والمؤسّسات.

أمّا المُسلَّمة الثالثة والأخيرة فهي ضرورة الاعتراف بأنّ الاندماج ليس بالأمر السهل على المهاجرين أنفسهم، حتى وإنّ أستشهد البعض بالمهاجرين الأوائل الذين نجحوا في الإندماج التام بالرغم ممّا عانوه من صعوبات، ولا على المقيمين الذين قد يتقبّلون إقامة شخص أو اثنين في ما بينهم، يفِدُ في ظروف عادية (زواج ومصاهرة مثلاً) و"يُضفي لمسة غريبة (مُستَجلَبة) على القرية". لكن وفود جماعات وبأعداد كبيرة، حتى وإن كانت نواياهم حسنة ومسالمة، سيدفع إلى المنافسة على المكان، وليس طبعاً من دون توتّرات.

والواقع أنّ الاحتكاك والتلاقح بين الشعوب مفيد عموماً، لكن هل يصحّ ذلك إذا ما حدث بين شعوب مُقتلَعة عن بلادها اقتلاعاً؟

وجد البعض الجواب-الحلّ في كلمة "التهجين" التي درجت مثل كلمة "المترحّل". وهنا أيضاً ينتقد الكاتب مقولة التهجين ويرى أنّه يتطلب أن تكون الحضارتان المتلاقِحَتان سليمتَيْن وقويتَيْن، فتتبادلان التأثّر والتأثير وتعطيان نتاجاً "هجيناً" قويّاً وسليماً. والحال أنّه لا يمكن تهجين ما فقد الحياة والقوة والخصوبة، كما هي حال الغربيّين والشرقيّين على حدٍّ سواء.

الهجرة في فرنسا واقعاً وتداعيات
يحصر لوباسكور تحليله في فرنسا التي يعرفها كما يعرف مهاجريها، وينطلق من آخِر كتابات جورج برنانوس (Georges Bernanos) ليبيِّن ما الذي بقي مشعّاً في فرنسا من مفاهيم ومبادئ كانت قائمة عندما لم يكن الغرب بعد كوكباً ميْتاً. يرى برنانوس أنّ الحضارة الفرنسيّة قامت على مفهوم الرجل "العاقل والحرّ"، وهذا التلازم المطلق بين العقل والحرّيّة هو الذي يضفي على الإنسان طابعه المقدّس عند الفرنسيّين، وقد قامت رسالة فرنسا على هذا المبدأ الذي يعني عمليّاً تحمّل المسؤوليّة كإنسان مفكّر، لا يتنازل عن واجب إعمال العقل هو بنفسه.

هذا ما عملت عليه المدارس في فرنسا وتربّت عليه أجيال، أجيال الأجداد بالتأكيد، التي تعلّقت بالفكر الحرّ والعقلانيّة، ورفضت أن تُملى عليها القناعات. ومع احترامها لأهل الفكر، احتفظت بالقيم الإنسانيّة العليا.

فرنسا تُقتلَع من جذورها
هل أنجزت فرنسا هذه المهمّة. كلا! هذا ما يؤكّده آسفاً لوباسكور، وقد برهن، مستعيناً ببرنانوس، كيف أنّ المدارس الفرنسيّة اليوم لم تعد تنجز مهمتها هذه. وفي "حضارة الآلة" كما يسميها برنانوس، واليوم نسمّيها "حضارة الاستهلاك"، باتت تُعِدّ شبّاناً فارغين وصالحين للعمل، يتمتّعون بـ"كفاءات" مفيدة، لكنّهم يفتقرون إلى قواعد التفكير.

فأين هي فرنسا التي يجب أن يندمج فيها المهاجرون وقد بات الشعار الوحيد فيها: "كونوا مستهلِكين كاملين"، ومعه فقد الفرنسيّون الأسس والقيم الروحيّة والإنسانيّة التي تربّت عليها الأجيال السابقة، وباتوا يحسّون أنّهم غرباء عن هذا الواقع وباتت فرنسا بلد أناسٍ مقتلَعين (من جذورهم الحضاريّة الخاصّة)، كما اقتُلِع الناس الوافدون إليها من جذورهم.

المهاجرون ضحايا الاستهلاك
وكما الفرنسيّون وقع شباب المهاجرين من أفارقة وشرقيّين ضحايا المجتمع الاستهلاكيّ. ولم يعد المسلمون منهم يحملون من مُثُل الإسلام العليا، ومن الميراث الحضاري الكبير، ومن القيم الإنسانيّة، سوى الاسم فقط. وأوّل المنزعجين من سلوكهم هم المهاجرون الأوائل أو الجدد من أبناء جلدتهم الذين ما يزالون متمسِّكين بقيمهم وحضارتهم الفعليّة، وهم يشاركون الأوروبيّين في الحذر منهم. نرى إذن أنّ الوافدين إلى بلدٍ لم يعد يعرف ما هو، هم أناس ما عادوا يعرفون من هم (ومع ذلك يمعنون في رفع لواء الهويّة التي ما عادوا يحملون منها شيئاً، كما رأينا في القسم الأول).

هل يمكن التهجين بين طرفَيْن معدمَيْن؟
فأي تهجينات جميلة ستنشأ من هذه المواجهة بين المُعدَمين؟
لو كان العرب، بعدُ، عرباً، والأفارقة أفارقة، بالقيم والأصول التي كانت عند أهلهم وأجدادهم، ولو أن فرنسا بقيت أمينةً للمهمة التي تصوّرها برنانوس لها، لما كان الإندماج، أو التهجين كما يراه البعض، صعباً إلى هذه الدرجة. لكنّهم لم يحتفظوا بشيء من حضارة أهلهم وأجدادهم، وباتوا أبناء العولمة، ينساقون إلى نظامها الاستهلاكي، وبها يريدون الاندماج وليس بفرنسا مثلاً.



ويحمّل لوباسكور الفرنسيّين أولاً مسؤولية فشل الإندماج لأنّ الدور الأساسيّ يقع على عاتق البلد المضيف. فكيف يمكن الاندماج في بلدٍ لم يعد موجوداً؟ "فنحن من كانت عليه مسؤولية إبقائه حيّاً فتركناه يضمحل، وليس الأقليّات المتحدّرة من الهجرة". وكيف يمكن الاندماج في مجتمع هو أصلاً متفكّك، وكلّ مكوّناته السياسيّة والشعبية والاجتماعيّة والدينيّة تتبادل الازدراء والكراهيّة متخلّيةً عن أدوارها، حتى بات الفرنسيّ الأصل يرى نفسه غريباً فيه؟

كما لا ينجح الدمج بالتقديمات وتوفير المساكن (على ما في ذلك من حسن نية) إزاء عدم الاعتراف بالجميل ولا الإلتزام بأي واجب من جانب المستفيدين، وإزاء الإحساس بالذنب والإغراق في الاعتذارات عند أي تقصير أو تأخُّر. فذلك كلّه يشجّع المهاجر الجديد على الإلحاح في المطالبة بحقوقه أولاً من دون أن يفكّر في ما يقدمّه... وتتحوّل العلاقة مع الوقت إلى نوع من الاستياء الانتقاميّ.

فلكي يحب المهاجر، البلدَ المضيف، موطنَه الجديد، ويفرض مكاناً له فيه، يجب أن يتعب فيه ومن أجله. ويمرّ مسار الاندماج حكماً، كما حدث دوماً، بالمعاناة وبعدم الثقة المتبادّل ثمّ بالاحترام المتبادَل وأخيراً بالمحبّة (وإن أثارت هذه الكلمة الأخيرة ابتسامة سخرية عند البعض). أما مبدأ "الحقوق أوّلاً" فقد أحلّ الإذلال المتبادل مكان المسار المذكور، ذلّ المتلقّي الذي يأخذ من كيان لا يوحي بالثقة، وذلّ الواهب لأنّه يعطي تحت الضغط إن لم نقل التهديد. ويبقى هناك، في فرنسا، في عالم الصحافة والبورجوازيّة من يستثمر في هذا الإذلال ويعمل على إذكائه.

ربّ قائل بأنّ المهاجرين الجدد يكرهون بالوراثة فرنسا بسبب تاريخها الاستعماري. لكن ألم تكن هناك دول مستعمِرة غيرها؟ فالحقيقة أنّ فرنسا مكروهة أكثر من غيرها من المستعمرين لأنها لم ترتقِ إلى مستوى الصورة التي كوّنتها عن نفسها، كما وأنّها، في جانبٍ منها، لم تُرِد التخلّي عنها كلّياً، وهذا ما جعلها (بالرغم من فشلها في مقاومة نزعة العولمة) موضع كره النخب المعولمة، والنخب الفرنسيّة المتعولِمة، وكذلك المقتلَعين الذين أحلّوا الاستهلاك محل الجذور.

إنه كره الحمقى تجاه مَنْ لا يسمح بأن يُبتلع بسهولة ولا ينساق لجو الحماقة المحيط به. ويعبّر الكاتب عن ألمه إذ يلاحظ هذه الكراهية خصوصاً بين العرب، التقدّميين منهم على الأخصّ لأنّ فرنسا لا تريد أن تتحوّل إلى أميركا التي هم أنفسهم يخشعون أمامها بعكس ما يدّعون، أو الإسلاميّين منهم الذي يريدون استغلال الاستهلاك في مجال "الهوية الإسلاميّة".

في الوقت نفسه، تخشى الشعوب الأوروبّية أن تخسر ما تبقّى لها من أوروبا، وهي ترى أنّ حياتها جيّدة ومميّزة بما تبقى لها من قديمها وبالمقارنة مع سائر الشعوب التي لا يهمها أن تنقذها. وقد يقال إن أوروبا تستأهل ذلك بسبب تاريخها الاستعماري إذ قوّضت الاستعمارات الكثير من البلدان، وبعد الاستقلالات حكم هذه الدول حكّام مستعمِرون من الداخل فلم تتحسَّن أوضاعها... فها إن أوروبا إذن تدفع الثمن إذ تدفّق عليها "المقتلَعون الذين يقتلِعون". لكن، إن تكن قد أخطأت تاريخيّاً، فهل يمكن أن تتقبَّل مرتاحةً هذا العقاب؟

الإرهاب كراهيّة وسخط، تدمير وتدمير الذات
ثمّ جاء الإرهاب... الذي بات من الضروري أن نتكلّم عنه. قد لا يكون الإرهاب مؤذياً بشريّاً ومادّياً أكثر من الكوارث الطبيعية أو حوادث القطارات أو الطيران. لكن أذاه يتمثّل في صَعْقه المخيِّلة إذ يكشف عن حجم الكراهية والسخط وعن الرغبة في التدمير وتدمير الذات. وهو بذلك يكشف الحقيقة المسكوت عنها في العالم، أي كونه الدلالة على تفكّك المجتمع.

والمهمّ في هذه الناحية هو إشارة الكاتب وتأكيده أنّ الإرهابيّين يأتون من المجتمع الفرنسيّ وليس من مكان آخر، من عند العرب أو الأفغان مثلاً، أي ليس من مجتمعات شرقية هم غرباء عنها تماماً، ولا حتى من ديانة هم في الحقيقة يجهلونها كلّياً. هذا الخطر الحقيقيّ المحلّيّ الداخليّ الذي لا يمكن هضمه يجعل أصحاب الشأن يحرفون الأنظار إلى أخطار أخرى قابلة للهضم مثل الخطر الشرقيّ أو الإسلاميّ.

بين الأصول والمدرسة والعَيْلة والمجتمع كما هو!
يلحظ لوباسكور أنّ بعض الجهاديّين هم من أصول فرنسيّة "أباً عن جد"، لكن معظمهم من المهاجرين الجدد، فلماذا؟ ليس لأنّهم متعلّقون بحضارة آبائهم غير المتلائمة مع مبادئ الجمهورية، بل لأنّهم لم يرثوا شيئاً من حضارة أسلافهم، وهو ما يمكن تحصيله في أجواء العائلة، ذات الدور الأساسيّ، إذا فاتهم ذلك في المدرسة التي تخلّت عن دورها.

ويلفت إلى أن خطّ الدفاع الثاني بجانب المدرسة هو العالَم كما هو، العالم الحقيقيّ الواقعيّ، حيث آثار الماضي وسلوكيّاته ما تزال مُعتَمَدة في كلّ مكانٍ منه. ما زال الفرنسيّون مثلاً يتحلّون بالمناعة ضد المفاهيم الجنسيّة الجديدة. والحال أنّ أبناء الهجرة لم تتيسَّر لهم الحماية بواسطة ما تبقّى لهم من مجتمعهم القديم، ولم يتمكّن أهاليهم غير المؤهّلين ربما من تحصينهم بنموذج آخر. وفي الواقع عندما نجح الأهل في ذلك تحوّل أولادهم "فرنسيّين" تماماً واحتلّوا موقعهم في مجتمعٍ اغتنى بهم.

ومن أسباب نجاح بعض المهاجرين في التحوّل أو الانتقال هو مستوى الوضع الاجتماعي والحالة الانتروبولوجيّة. فالذين يأتون من الطبقة الوسطى مثلاً قابلون للإندماج أكثر من أبناء الطبقات العاملة الدنيا المغربية: فأي ولدٍ يريد أن يتمثّل بأبيه الذي عاش الذلّ. ومن ناحية أخرى فإنّ الإناث المغربيات أكثر قابلية للاندماج من الذكور المغربيّين لأسباب انتروبولوجيّة تعود إلى العلاقة مع الأب.

ثمّ إنّ أبناء الهجرة الأكثر اقتلاعاً من جذورهم هم الأقل انقياداً، إلا من بقي لهم بعض المعايير والأصول التي يستندون عليها. فإن كان أسلاف الواحد منهم مسلمين وهو يؤمن بأنه ما زال مسلماً، قد تكون له صورة معيّنة يمكن أن يلتفت إليها، صورة مقبولة أكثر طالما الإسلام الحديث بات وجهاً مختلفاً ومشوّهاً من وجوه الحداثة الاستهلاكيّة. وعندما يكون المتحدّر من الهجرة الحديثة هو كلّياً ابن المجتمع الاستهلاكي وليس عنده أي مورد فكريّ أو أخلاقيّ يعود به إلى الوراء، فكيف يمكنه مجابهة المجتمع الاستهلاكي؟ باعتناق النزعة الإسلاميّة المنحرفة، أي باعتماد نزعة استهلاكية في وجه نزعة استهلاكيّة أخرى، ساعياً بذلك إلى التميّز والبروز.

واستدراكاً، يلفت لوباسكور إلى أنّ الديانة الإسلاميّة الحديثة ليست الوحيدة التي وقعت ضحيّة السوق أو انقادت لها، بل هناك أمثلة كثيرة عن ديانات، هندية مثلاً، نشأت في البيئة الأميركيّة الاستهلاكية وتقصَّدت السير في هذا الطريق. لكن الإسلامويّة هي التي تحتكر اليوم هذه المعارضة في الصفوف الأماميّة ولذلك تجتذب الشبّاب من أبناء الهجرة أو من الأصول الفرنسيّة.

صراع الجِوار
إن العالمين الإسلاميّ والأوروبيّ ينزعان إلى التصادم منذ ثلاثة عشر قرناً، وذلك بسبب تجاورهما جغرافيّاً، وعلى الأخص بسبب تقاربهما في المفاهيم. جاران متشابهان تماماً ولا يريد أحدهما أن "يكون الآخر"، اي أن ينصهر فيه تماماً كما أراد المستعمِرون من الطرفين وكلّ في زمنه. إنّه عداء الأخوة كما قايين وهابيل.

ويضيف الكاتب معترفاً بأن الإسلام هو الأكثر تشدداً وثباتاً بين الديانات التوحيدية في الدفاع عن قناعاته والدعوة إليه، تبعاً للآية الداعية إلى "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". ولذلك يبدو الإسلام ملاذاً لليائسين من هذا العالم، فيقعون في خطأ الاعتقاد بإمكانية إحياء ما لم يعد له وجود، والأسوأ أنهم في عجزهم عن الالتحاق بأي عقيدة دينيّة يخلعون على الإسلام نزعتهم الاستهلاكية الخاصّة، إمّا عبر الشكليّات والرموز الخارجيّة (على غرار السلفيّين)، وإما عبر أفيون جديد انتحاري هو "الإرهاب الإسلاميّ".

هكذا يمكن تفسير ظاهرة ليس فيها من الإسلام شيء، لكنها تغري أحفاد المهاجرين المسلمين (لا ينفي الكاتب دور المحرّكات الخارجيّة)، مع أنّ هؤلاء الأهل، بما ورثوه من صورة القوة، يقفون في وجه هذه الحالة الشاذّة حالياً. فلا غرابة أن هؤلاء المقتلَعين الذين تحولوا إرهابيين قد اختاروا كـ"ماركة" لهم راية الإسلام مع أنّ ما يدرجونه تحتها لا يمتّ بأي صلة إلى الثقافة الإسلاميّة.

ولماذا الحديث عن الإرهاب في معرِض الحديث عن الهجرة؟ لأنّ الهجرة، وإن لم تكن عاملاً أساسيّاً لنشوء الإرهاب، هي عنصر مساعد على مفاقمته. كما وليس المهاجرون هم الذين جعلوا فرنسا تتخلّى عن مبادئها ودورها، ولا هم دفعوها إلى أوحال النزعة الاستهلاكيّة، لكن المهاجر الذي لم يرث أي شيء من أي حضارة حيّة، وليس له أي قدرة دفاعية، هو تجسيد لهذا الوضع. والسياسيّون وناخبوهم هم الذين يتحمّلون مسؤولية التغيّر وتشويه صورة فرنسا. فالفرنسيّون، ولأسباب لا تتعلّق بالمهاجرين، قد يتقاتلون ويتناحرون في ما بينهم، لكن الخطر هو في سهولة تجنيد هؤلاء المهاجرين بسبب يأسهم وإحباطهم.

خلوّ الساحة للمحبَطين... طليعة المحاربين!
يعترف الكاتب بوجود المشاكل في فرنسا، ويقول بحتمية وقوع الحرب الأهليّة فيها، لكن ليس بالشكل الذي يتوقّعه كثيرون. لن تكون بين مليشيات تتناحر، ضمن حدود مرسومة وخطوط تماس، إنما ستكون المرحلة القصوى من الحالة الاستهلاكية، والطور الغاضب منها.

فما سيحدث هو أن الأوّلين (من مهاجرين ومن فرنسيّي الأصل) سيرحلون تباعاً عن هذا العالم ليبقى أولادهم وأحفادهم المحبطون ما بين الحقد والكراهية، للأسباب المذكورة آنفاً، والذين قد يتحوّلون طليعة المحاربين. ستكون حرب الكلّ ضدّ الكلّ لا تحرُّج فيها من الوسائل ولا من الهواجس، مع التباهي بالتفاني المزيّف، عبر منوعات من الشعارات الاستهلاكيّة المزيّفة في الدين والوطنيّة وما يشبهها ممّا لا يمكننا تصوّره بوضوح بعد، لأنّ التاريخ قد يفاجئنا.

"قد ندخل هذه الحرب من دون انتباه، وربما دخلناها أساساً. هل يبدو هذا قاتماً؟ حمداً لله لست عالماً بالمستقبل، لكن قد لا أكون كليّاً على خطأ".

آفاق الحلّ البعيدة
لكي لا تبقى الآفاق مسدودة، يتصوّر لوباسكور حلاً مبنيّاً على آرائه كما على آراء مفكّرين كبار من قبله. فيرى أنّه يجب إعادة العمل بالنظام التعليميّ من أجل استعادة مدرسةٍ، لا تعيد التأسيس للهدم، بل تنقل المعرفة وتعلم التواضع في تحصيل المعرفة. مدرسة لا تعلمّ الثقة العمياء والجوفاء بالنفس، بل تجعل الطالب يعي أنّه لا يعرف كل شيء وأن أمامه الكثير ليتعلمه قبل أن يُطلق الأحكام. تُعَلِّم إتقان اللغة والتأنّي في التفكير قبل النطق بأي شيء، على مبدأ "الرجل العاقل والحرّ". وكذلك يجب الحدّ، كما دعت سيمون فايل، من حريّات الخطابات الدعائيّة (والسياسيّة أيضا لأنها مثلها) لمنع تلاعباتها الخبيثة المتلاحقة.

كما أنه يدعو (متمثّلاً فينلون Fénelon وسان سيمون Saint-Simon) إلى الحد من نفوذ رجال المال الرأسماليّين. وبالإجمال يجب إعادة بناء كلّ شيء، وعندها لن تبقى مسألة الهجرة "قضيةً" إذا ما خضعت لرقابة معقولة ضمن ضوابط محدّدة، وهكذا سيجد المهاجرون حيّزا لهم في هذا البلد المولود من جديد.

لكن ليس هذا كلّه سهلاً، ليس بسبب تضرّر مصالح النافذين، بل لأنّ أحداً لا يريد ذلك، بدءاً من النظام المدرسيّ. فأي أهل، اليوم، سيقبلون بأن ينال أولادهم علامات سيّئة بسبب جهلهم، وأن يتلقّوا القصاص اللازم، أو أن يُطلَب منهم بحزم السكوت والتعلّم والتفكير بصمت؟ أليس على المدرسة الحديثة أن تحترم "حقّ" الفرد (وبالتالي تركه يتمرَغ في الغباء)، وعليها أن توزّع الحقوق كيفما كان وخصوصاً "حقّ النجاح"؟

وهذا ما ينسحب على سائر المجالات، فمن سيعيش من دون التلفزيون ودوره الدعائيّ والترويجيّ، ومن دون المشتريات المرغوبة ومن دون التعبير ونشر التعليقات السخيفة بلا تفكير في الحقوق؟ كيف الاستغناء عن الاستهلاك وقد بات بديل الحياة؟

هذا ما يؤكّد الحاجة إلى ثورة داخليّة فعلية غير محصورة في البعض بل عامة شاملة، تمثّلاً بالآية القرآنيّة: "إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم". وما لم يتحقّق ذلك من العبث التحرّك. وهو لن يتحقّق قبل بلوغ المسار الحالي نهاياته، وما نزال بعيدين عن هذه النهاية... ولا بدّ من توقّع الأسوأ.

ليس بإمكاننا سوى التحضير لما بعد، من دون أن تُغرّنا الآمال، فالتغييرات الخارجية لن تفيد بشيء (نتائج انتخابات مثلاً)، بل المفروض التحلّي بـ"الرجاء" الذي يعني الثقة الراسخة في يقظة الطبيعة الانسانيّة عندما يحين الأوان.

إن لوجود الشخص الذي لا يجاري هذه الأوضاع القائمة ويرى ويفكّر بطريقة مختلفة أثره، وبفضله سيتبقى شيء من زمن ما قبل قيام هذا العالم المتوحّش.

إن الماضي الذي مات لن يحيا مجدّداً، وما ينبعث منه هو ما لم يمت كلّياً، بل بقي كامناً في الأعماق في حالة خدر، ومن الضروريّ إبقائه حيّاً لكي نتولّى نقل وإيصال ما لا بدّ أن يستيقظ منه يوماً ما.

خلاصة
لا يخفي لوباسكور أنّ ما جاء به في كتابه هذا لا يخضع لمنهجيّة علميّة دقيقة، بل هو نتيجة انطباعات وملاحظات وليدة المعايشة والمراقبة. لكنّه تناول موضوعاته بالكثير من الدقة وعبّر عن آرائه بمنتهى الجرأة والصدق والصراحة، وإن ظلّت هذه الآراء محصورة إلى حدٍّ كبير في وجه واحد من وجوه الأزمة، أعني علاقة الغربيّين والشرقيّين على حدٍّ سواء بحضارتَيْهم، وتأثير انسلاخهم عنها في مجرى حياتهم ومواقفهم وسلوكيّاتهم بفعل سياسة العولمة وطغيان اقتصاد السوق الاستهلاكي. ومن هنا تبدو بعض آرائه قابلة للنقاش. فمع أنّه ألمح إلى مبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في معرض حديثه عن صدق المسلم وتمسّكه بمبادئه وعمله على حمايتها وتطبيقها، إلا أنّه أهمل ذِكر احتمالات وجود تخطيط خارجيّ وسياسة ممنهجة لنشر الإسلام مثلاً انطلاقاً من هذا المبدأ، حتى وإن تكن الأشكال الاستهلاكيّة وسيلة تحريض أو تشجيع أو إغراء. وربما كان يجدر به العودة قليلاً إلى ما ذكَره في القسم الأول حول ضرورة النظر في الأمور من الناحية الوراثية التي تتحكم أحياناً بتصرف الأفراد والجماعات.

وإن يكن لوباسكور مثالياً طوباويّاً إلى حدٍّ ما في الحلّ النهائي الذي طرحه، وهو انتظار يقظة الضمير الإنساني الكامن عندما يحين الأوان، لا أخال أنّه فاته أنّ التغيُّرات الجيّدة الكبرى تحدث بعد الأحداث الكبرى. ألم تكن هذه نتيجة الثورة الفرنسيّة وما ثبّتته من مبادئ في الحضارة الفرنسيّة؟ ألم تغيّر الحربان العالميّتان الكثير من المفاهيم في الفكر والسياسات الأوروبيّة على الأخصّ؟ أوليس هذا ما يخشى هو نفسه زواله؟

ومع ذلك، هو في غمرة تشاؤمه، يترك لنا بصيص أملٍ في نهاية المطاف، وعلى "رجاء" أن يكون ذلك قريباً وليس بعيداً كما يتوقّع!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها