لا يمكن الحديث عن بدايات الشاعر رياض الصالح الحسين (1954-1982) من دون استعادة أجواء حلب في السبعينات، عندما وصلتُ المدينة للالتحاق بكلية الزراعة في خريف العام 1974، ولم أكن أعرف أحداً هناك. ولحسن الحظ أن الصديق نذير جعفر كان قد سبقني إلى المدينة، وهو على صلة قرابة بأصحاب فندق في منطقة باب الفرج، وهي أول نقطة وصلناها في حلب مشياً على الأقدام من كاراج الباصات وصولاً إلى شارع بارون الذي سيصبح أحد مرابع مسراتنا الصغيرة في تلك المدينة الجميلة والقاسية والصعبة. ومن معالم هذا الشارع حتى اليوم فندق بارون الذي سكنه الكبار ومنهم الملك فيصل، الجنرال شارل ديغول، جمال عبد الناصر، الضابط الإنكليزي توماس إدوارد لورانس الذي لقب في ما بعد بـ"لورانس العرب"، وآغاتا كريستي وزوجها عالم الآثار المعروف ماكس مالوان الذي نقب عن الآثار في محافظة الحسكة، وكانت هي برفقته في زواجها الثالث، وكتبت في فندق بارون روايتها الشهيرة جريمة في قطار الشرق السريع.
حلب من أقدم الحواضر التاريخية وأكثرها عراقة، تجمع الريف بالمدنية، التاريخ مع الحاضر. لقاء الداخل والخارج. مدينة الطعام واللهو والتدين العميق والصرامة التي تصل حد اللهجة المصفحة، والتي لم تتمكن حتى القدود من تليينها. مدينة جف نهرها منذ زمن طويل، وكان جارياً في وقت سابق، وجاء في رسالة كتبها لورانس إلى أمه "أجلس الآن على شرفة هذا الفندق العظيم (بارون) وأشاهد البط والإوز يسبح في النهر"، في إشارة إلى نهر قويق الذي كان يقسم المدينة إلى قسمين. وبردُ حلب أكثر شراسة من ذئب الصحراء الجائع، بينما حرها يذيب الاسفلت في شهر آب، ولكنها ترق في ليالي الصيف عن نسيم لا أحد يعرف من أين يأتي، يتسلل من أماكن سرية في روايات الوجد، كما تخرج الحلبيات لابسات الملاءات، وكأن مايكل أنجيلو تفرغ لشغل جمالهن الذي يكسر حدة القسوة في هذه البيئة التي ولدت على حدود الصحراء، ولم تغيرها كل تواريخ القحط والحروب والغزوات.
كل شيء في حلب صارم وقديم. لا شيء جديداً أبداً، وحتى الجديد الذي يصلها لا يلبث أن يتحول إلى قديم. العمارة واللباس والغناء والشعر والتقاليد والحمّامات. هناك لكل شيء تاريخ يشهد على عراقته. إنها مدينة تقليدية بامتياز، وهذا سر شخصيتها القوية والراسخ عبر تاريخ مديد، وهو ما يمنع أن تتغير الأشياء فيها بسهولة. ورغم أنها كانت عاصمة اقتصادية كبيرة طوال قرون في منطقة شاسعة، تمتد حتى اسطنبول والموصل، فإنها ظلت لا تشبه العواصم. وحتى الهجرات التي جاءت اليها في نهاية القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، من أرمنية وكردية وتركية وبدوية وسريانية، فإنها أخذت طبائع المدينة وسارت على منوالها. وصار هؤلاء يُكنَّون بحلب. فالأرمني يقول أنا من أرمن حلب، وكذلك الكردي، وحتى عشيرة البكارة التي تتنشر بكثرة في دير الزور والحسكة اسمها بكارة حلب، لا تتصل أبداً بفروعها الأخرى.
هل سكن المتنبي هنا؟ سؤال طرحته على أحد شعراء حلب الحداثيين المعروفين، لؤي فؤاد الأسعد. ويقول الشاعر الأسعد، نعم عاش في حلب لكنه لم يترك بيتاً، ولا تصدق إذا ظهر أحد ليقول وجدنا أثراً لبيت المتنبي في حلب. ولماذا لم يسكن بيتاً، وهو الذي يتغني بالسبيل أحد أجمل أحياء حلب وأقدمها: كلما رحبت بنا الروض قلنا حلب قصدنا وأنت السبيل؟ يقول الأسعد أن المتنبي كان رحالة، لكنه أحب حلب أكثر من كل الأمكنة (لا أقمنا على مكان وإن طاب.. ولا يمكن المكان الرحيل).
في حلب وسط ثقافي غني، لكنه راكد، تحتل التقليدية فيه موقع الصدارة، وكان رياض الصالح الحسين يفتش عن نفسه، وهو شاب عشريني لديه الأسئلة القلقة نفسها التي يطرحها كل الذين يبدأون في هذا العمر البحث عن شخصية متميزة بوسائلهم الخاصة وإمكاناتهم الذاتية. ورغم أن محاولاته الشعرية الأولى كانت تنم عن موهبة كبيرة، إلا أن الشاب الريفي لم يجد استقبالاً، بل كان يلقى صدّاً ورفضاً أو عدم اهتمام. وحين تعرفت عليه العام 1975، مع الصديق الشاعر الفلسطيني خالد درويش، كان رياض يراوح بين الشكلين العمودي والتفعيلة، في حين أن خالد كان حاسماً لجهة الشكل ومتجهاً بوضوح للحداثة وقصيدة النثر. ورغم سطوة الكلاسيكية على الكتابة في حلب، فقد كانت هناك تجارب حداثية مهمة في المدينة على صعيد الرواية والقصة القصيرة والنقد الأدبي والشعر والرسم والمسرح، ومن هؤلاء الروائي وليد اخلاصي، والقاص نيروز مالك، والناقد عبد الرزاق عيد، والشعراء لؤي الاسعد، محمود علي السعيد، عصام ترشحاني، والفنان التشكيلي لؤي كيالي، والمسرحي عبد الرحمن حمود. وكانت هناك تجارب جديدة من شباب في جيلنا أو أكبر قليلاً سيكون لها شأن مثل الروائي فيصل خرتش والناقد والباحث جمال باروت. ووسط كل هذا الخليط، كان في الضفة الأخرى، شاعر استثنائي كردي يكتب بالعربية هو حامد بدرخان من قرية شيخ الحديد على الحدود السورية التركية. وكان حامد يقول أن اصوله تعود إلى تركيا، وبسبب نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي التركي عبَر الحدود. وحدثنا كثيراً عن صداقته مع ناظم حكمت ولويس آراغون قبل ان يستقر في شيخ الحديد، ويتردد إلى حلب في صورة منتظمة، ونشأت بيننا وبينه نحن مجموعة الشباب علاقة صداقة خاصة، وتحديدا رياض وخالد وأنا ونذير جعفر القاص، والذي كان بدأ محاولات نقدية سوف تتطور لاحقاً وتبعده عن القصة القصيرة نحو الرواية. ورغم ان رياض لم يولد في حلب بل في درعا، وان أصل أهله يعود إلى ريف حلب قرية مارع، فإن سكن أهله في حي الصاخور الشعبي يسجل انتمائه لهذه المدينة على عكسنا نحن البقية خالد الفلسطيني وحامد التركي الكردي السوري ونذير الذي ينحدر أهله من ريف حلب، ولكنه ابن مدينتي الحسكة وصديق المراهقة والمحاولات الأدبية الأولى.
أولينا جميعاً عناية خاصة برياض، لأنه كان قبل كل شيء شاباً موهوباً، لكن لا صلة تربطه بالوسط الثقافي، وليس لديه اي واسطة تربطه بالنشر والمثقفين، وحتى الوصول إلى الكتب الجديدة. والخلاف بيننا وبينه، أننا نذير وأنا كنا طالبين في الجامعة، وخالد كان للتو انهى دراسته الثانوية، وعلى صلة بشعراء فلسطين المعروفين، بينما رياض كان قد انقطع عن الدراسة صغيراً بسبب مرض أصابه بالصمم ومشكلة في النطق. وكان حامد بدرخان بالنسبة لنا بمثابة الأخ الكبير الذي نستأنس بحضوره انسانياً وثقافياً، لا سيما أنه كسر النمط السائد في الكتابة الشعرية في سوريا، وكان يكتب قصيدة نثر بشكل خاص، وله قاموس شخصي لا يشبه غيره. وهو حالة أقرب إلى حالة محمد الماغوط في فرادتها الشعرية، كونه يشكل مدرسة لوحده تؤثر ولا تتأثر بغيرها، بوصفها تشكل اقتراحاً جديداً في قصيدة النثر. لم يكن الماغوط يشبه الشعراء في محيطه مثل ادونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال، وكذلك حامد بدرخان لا صلة تربطه بناظم حكمت، أو اورخان ميسر، الشاعر التركي الذي عاش في حلب وكان حداثياً من طراز خاص، ومن اوائل السورياليين في المنطقة. ويشبه حالة الماغوط وبدرخان إلى حد كبير، الشاعر عزمي موراللي، مع خلاف ان هذا الشاعر الذي كتب بالفرنسية ابن ثقافة باريسية بحس شرقي.
بدا رياض، منذ الأيام الأولى للقاءات معه، أنه على استعداد لمغادرة عالمه القديم، وأول علامة في تدشين مسيرة القطيعة كانت التحاقه بعالمنا اليومي، عالم طلبة الجامعة وبذلك انتقل من بيئة شبه ريفية ضيقة إلى وسط شاب يفكر بطريقة جديدة، وصار لا يفترق عني وعن نذير وخالد، وغالباً ما كان يسكن عندي أياماً عديدة، كوني كنت أعيش في غرفة منفردة في محطة بغداد، وحين كنت أذهب إلى دوامي في الجامعة كان رياض يبقى في البيت يقرأ ويطبخ، وخلال فترة وجيزة تعرف على سكان العمارة، وصارت تربطه علاقة خاصة بسيدة (صباح) تملك الغرفة التي أسكنها، أخرجته من عالمه القديم، وكانت هذه أول مرة يتعرف فيها على الأنثى عاطفياً وحسياً. ورغم أنه كتب لنساء كثيرات فإن صباح لم ينلها نصيب من كرمه الشعري. وفي هذه الفترات بدأت خطوات رياض مع قصيدة النثر، وتوليت ارسال قصائده الأولى إلى الصديق الشاعر الراحل بندر عبد الحميد، المشرف حينذاك على القسم الثقافي في صحيفة البعث، وأهتم بها، وحين صارت لديه مجموعة من القصائد التي يمكن أن تضمها دفتا كتاب واحد، تناقشنا مطولاً واقترحت عليه خراب الدورة الدموية بحضور خالد ونذير، وهو العنوان الذي اقترحته للقصيدة حين تم نشرها في "البعث". وكل قصائد هذا الديوان كتبها رياض في حلب في العامين 1975 و1976، وكان يكتب القصيدة ويحملها ويأتي كي يقرأها علينا، إما في لقاءات مقهى القصر، وإما في مطعم الشباب عند حنا كعدي. وكانت الدائرة ضيقة لا تتجاوز خمسة اشخاص: بدرخان، ودرويش، جعفر، رياض، وأنا. وكان رياض يدخل تعديلات على العناوين وبعض المقاطع بعد كل جلسة ومن ثم نرسلها للنشر، في احدى صحف العاصمة.
والأمر اللافت هنا هو أن رياض اقتنع بسرعة أن أحد شروط الحداثة هو القطيعة مع الأشكال القديمة، وأخذته الحرية الداخلية إلى التحرر من الشكل وشرع يكتب قصيدة النثر بطلاقة وحرية وحب، وما كان ينقصه فعلاً هو أن يشكل قاموسه الخاص، بعيداً من تأثير الماغوط ونزيه ابوعفش، وهو لم يتحرر منه أبداً، وظل يلازمه حتى وفاته. إلا أن رياض يمتاز بصوته الشخصي، حتى لو استخدم مفردات يتداولها شعراء آخرون. وأعطاه وضعه الخاص فرادة كانت طريقه إلى عالم كبير من القراء، حيث حال مرضه منذ الطفولة إلى حرمانه من حياة عادية. وهنا أشير إلى أن الإعاقة لم تمنع رياض من دخول الوسط الثقافي بقوة وجسارة ولم تؤثّر في انتشاره، بل كان أسرع من أبناء جيله الشعري، وهذا يعود إلى العفوية المدروسة في الصورة الشعرية، التي أخذها من جاك بريفير وآخرين.
وكما أشرت في بداية هذا المقال، فإن هذه الاطلالة ليست على سبيل تقييم تجربة رياض، وإنما من أجل القاء ضوء على مرحلة مهمة جداً، وهي البدايات التي شكلت عالم رياض الشعري، وكتب خلالها مجموعته الشعرية الأولى (خراب الدورة الدموية) التي صدرت العام 1979. وأجزم هنا أن ما يخص تفاصيل بدايات رياض من تفاصيل تبقى محصورة في دائرة الأربعة (حامد بدرخان، خالد درويش، نذير جعفر، وبشير البكر) الذين كانوا بمثابة عائلة رياض الثانية في حلب التي غادرتها العام 1977 لأكمل دراستي الجامعية في دمشق، في حين أن رياض تأخر قليلاً ليقيم في دمشق. وعلى خلاف حياته الرتيبة في مدينة حلب، شدته العاصمة إلى انفتاحها الاجتماعي، كما انفتحت أمامه أبواب النشر في الصحافة والشهرة، وحظي باستقبال من الوسط الثقافي لم يصل عليه أحد من جيله الشعري. لكن هذا الشاب المبدع والموهوب والمقدم على القصيدة بفرح، خذلته دمشق، ورحل مبكراً في تشرين الثاني/نوفمبر 1982 بسبب إهمال طبي وهو في سن 28 عاماً.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها