يبدو أن دروس حروب إسرائيل السابقة على لبنان ذهبت مع الريح، ولم يتعلم منها أحد شيئاً. ولذلك يتم تكرار الكثير من الأخطاء السابقة، كما لو أنها لم تحصل من قبل، ولم تصب بأذاها على نحو خاص، وأكثر فداحة، عامة الناس الذين لا تهتم بهم الدولة، أو يقعون خارج دوائر حزب الله. هؤلاء الذين يجدون أنفسهم عرضة للنيران، وخسارة البيت والعمل والتشرّد بانتظار المساعدات، ولم يجدوا ملاجئ تأويهم من عمليات القصف الإسرائيلي التي لا تعرف حدوداً.
مقاومة إسرائيل واجب، للدفاع عن الأرض والكرامة، ومنع العدو من أي انتهاك يتعلق بأرض وسماء ومياه البلد وحقوق أهله. هذه مسألة ليست قابلة للنقاش، ولا تحتمل الخلاف من حولها، وكل من يفكر غير ذلك يضع نفسه خارج الوطن والوطنية. وإلى حد اليوم يظهر اللبنانيون تضامناً وطنياً تجاوز كل التوقعات.
واجب المقاومة تقرره المكونات، التي يتألف منها البلد بمختلف فئاته الاجتماعية وطبقاته الاقتصادية وتشكيلاته الطائفية والعرقية، وليست شأنا يحتكره قسم منهم، يتحكم به، ويوجهه حسب أجندته، ليختار وحده ساعة الحرب والسلم، ويلزم بها الآخرين، ليتحول الأمر من التزام طوعي إلى إلزام إجباري.
الواجب في حالة الحرب متبادل بين المقاومة والناس، طالما أن العدو واحد، والهدف لا خلاف عليه. يتوجب على المقاومة أن تحمي الناس وتحرص على حياتهم وأرزاقهم ومصالحهم، وشؤون حياتهم اليومين من صحة وتعليم وغذاء، بالقدر الذي تلحق فيه خسائر بالعدو، ولا يعفيها أنها تقاتل ببسالة وتقدم التضحيات وتمنع العدو من أن يحتل أرض البلد، فهذه مهمتها. كما هو من واجب الناس أن يلتفوا من حولها كي تنهض بها على أفضل وجه، فالحرب جبهتان، واحدة للمواجهة مع العدو، والأخرى في الداخل.
المفروض بالطرف الذي قرّر مقاومة إسرائيل، من دون أن يرجع إلى بقية الشركاء في المصير الواحد، أن يتحمل مسؤولية النتائج المترتبة على قراره من النواحي كافة، وخاصة حساب الخسائر البشرية والمادية، لاسيما وأن الحرب تدور مع عدو لا يقيم اعتباراً لما يمكن أن يلحق بالمدنيين والبنى التحتية، بل برهنت الحرب على غزة أن اسرائيل وظفت ذلك من أجل الضغط على المقاومة، ولم يردعها قتل أكثر من أربعين ألفاً، نصفهم من الأطفال والنساء، وأحالت القطاع إلى ركام غير قابل للحياة، كما أنها لم ترضخ بسبب وجود عدد كبير من الرهائن الإسرائيليين لدى الفصائل الفلسطينية في غزة.
تكميم أفواه الناس ومنع انتقاد المقاومة ليس في صالحها، فهي ليست منزهة، ويمكن أن ترتكب أخطاء، وهذا وارد بالحرب، أو من دونها، وقد لا تأتي الحسابات مطابقة للنتائج، وهذا متعارف عليه في الحروب، التي تتغير باستمرار مفاهيمها وخططها وأساليبها. وقد تكون النتائج كارثية في بعض الأحيان، وفي كافة الأحوال لا ينفع المقاومة الصمت عن ذلك، بل يفيدها في حال قررت مراجعة الذات.
ربما جاء توقيت الحديث عن الأخطاء في غير أوانه، وفي لحظة لا يذهب فيها نحو الغرض المقصود، فيصبح مثل سهم موجه إلى المقاومة وهي في حالة حرب، لكن ذلك لا يسقط حق الناس في التعبير عن رأيهم، في شأن يخص حياتهم ومصيرهم، طالما أن عملية دفع الثمن تتكرر، وترتفع كلفتها، من حرب إلى أخرى.
في كل حرب هناك تيار من المدعين الذين ينصبون أنفسهم مدافعين عن المقاومة، يوزعون على الناس شهادات الوطنية والخيانة، ولا يقف هؤلاء عند توجيه الاتهامات، بل يذهبون إلى التهديد والوعيد، وينذرون الناس بحساب عسير بعد أن تتوقف الحرب. ومن دون شك لا يسهم تصرف هؤلاء في دعم المقاومة في لحظة الحرب، بل يسيؤون إليها، وينفرون بعض الناس منها، عدا عن أنهم يبثون ثقافة الكراهية بين المكونات، ويملؤون الصدور بغضب أعمى ينكفئ إلى الداخل، بدلا من أن يتجه ضد العدو.
يبدو أن هؤلاء الذين يدعون الحرص على المقاومة أكثر من الآخرين، لا يرون ما يحل ببقية أبناء الوطن، ولا يهمهم التضامن الوطني في حالة الحرب، ولا ما سيحدث في اليوم التالي، ومما لا شك فيه هو أن خطابهم وسلوكهم عبارة عن نتاج نظرة من التعالي على الناس، والانفصال عنهم، وعن مشاكلهم واحاسيسهم، ولو كان الأمر غير ذلك، لكانت مواقفهم عرفت بعض التعديل على الأقل، ودخل عليها بعض التفهم والاعتراف بالمآسي التي يواجهها قطاع واسع من الشعب اللبناني من جراء الحرب، يريد أن يصرخ من شدة الالم، الذي فاق كل احتمال.
اللافت هو أن إرهاب حرية التعبير عن الرأي تحت ذريعة أنها تصب في خدمة العدو، أو أنها تتم في غير أوانها، ليست حالة معزولة تقتصر على فئة معينة، تدعي الحرص على المقاومة، بل هو يصدر عن شرائح كثيرة، والأكثر مرارة هو أن من بين هؤلاء عدد لا يستهان به، من البعيدين هم وعائلاتهم ومصالحهم عن دوائر الخطر، ومع ذلك لا يحرجهم توجيه الشتائم، وتوزيع الاتهامات، لمن يدفعون الثمن على الأرض.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها