الثلاثاء 2013/10/08

آخر تحديث: 01:04 (بيروت)

"مجنون يحكي":حديقة كليشيه

الثلاثاء 2013/10/08
"مجنون يحكي":حديقة كليشيه
غابريال يمّين في مواجهة الأوركسترا
increase حجم الخط decrease
في "مسرح المدينة" سرّ شائع: الغالبية العظمى هنا لرؤية زياد الرحباني ممثلاً في مسرحية "مجنون يحكي"، بعد غياب سنوات.
الأرجح أن اسم المخرجة لينا خوري، ليس هو المغناطيس، ولا تجربتها، لا سيما في "حكي نسوان"، حيث اقتبست النص الشهير للأميركية إيف أنسلر "مونولوغات مهبلية" Vagina Monologues. و"نجحت" خوري بـ"نسوانها" آنذاك، في إفراغ العمل الأصلي من مضمونه الثوري كنصّ تراكمي مفتوح، بلا حقوق ملكية، يدجج السردية النسائية (لتجارب حقيقية من حول العالم) بأسلحة الشفاهة والعلانية وصوت الـ"أنا"، بما يجعلهن مالكات لحميميات أجسادهن وأرواحهن المنتهكة من قبل رجال ونساء أخريات وأطباء ونُظُم ثقافية وتربوية وسياسية مهيمنة. لكن خوري علّقت "المونولوغات" على حافة ابتذال قُدّم حينها خلطةً سحرية للتقدّمية بمعايير تجارية ضاربة.

في "مجنون يحكي"، المقتبسة عن نص للتشيكي-البريطاني طوم ستوبارد، نجد الموهوبة ندى بوفرحات. طواعية الجسد والصوت، وهي والشخصية كالقفاز والكفّ. ولا توفّر الآن حتى شَعرها الذي حلقته عن آخِره لصالح دورها ككاتبة انتقدت "النظام" فأودِعت مستشفى الأمراض العقلية. نجد أيضاً غابريال يمّين، ذا الجمهور العريض في المسرح والتلفزيون. طاقة مبذولة بسخاء وحنكة. يتفجر جنوناً ممسوساً بالموسيقى. هو "الشيزوفريني" الذي يشارك "الكاتبة العاقلة" عنبرها في المستشفى، وترتع في رأسه أوركسترا كاملة، تعانده ويعاندها.

لكن زياد الرحباني يبقى الغواية الأُم. الفخ الأجدى في مسرحية ينوء بنصِّها – المنمّط حدّ الصفرية – توليفٌ موسيقي تفاعلي لطيف لأسامة الخطيب، وجهدُ ممثلين، و"حركات" لا بأس بها في الإضاءة والديكور. الصالة تغصّ بالناس، وكيفما استدرت تسمع اسم الرحباني. لا بطاقات للبيع، بحسب الموظف في "فيرجن"، حتى آخر الشهر الجاري... ويظهر زياد، ويعلو التصفيق ويتكرر كلما أتى واحدة من "قفشاته". هو الإله، ومريدوه المخلصون مبرمجون مسبقاً على استظراف كل ما يصدر عنه. يريدونه كما هو. يعاندون، برصيده الذي في ذاكرتهم، من "سهرية" (1973) إلى "شي فاشل" (1983).. مُسقطين غالباً (عن وعي أم لا وعي؟) "تبشيره" الستاليني في "بخصوص الكرامة" ثم "لولا فسحة الأمل" (1994). يعبدونه كما هو، يتبنّونه كاملاً، غافرين/غافلين عن شعبوية كتاباته وحفلاته خلال السنوات الأخيرة، كرمى لتاريخ يرفضون التصديق بأنه ولّى بلا بوادر رجعة، حتى في معظم موسيقاه. وهو ظهر لهم هكذا. زياد الرحباني. من دون جهد أدائي/درامي يُذكَر. رغم أنه، في "مجنون يحكي"، ممثل فحسب. لا شأن له بالكتابة ولا الإخراج ولا الموسيقى. دوره: "الطبيب النفسي".. الذي لا شخصية فيه سوى زياد الأصلي.

M_Y-17.jpg

أما المسرحية ككل، فحديقة كليشيهات، أُقطفْ منها ما تشاء: القمع في أقدم قوالبه، الجنون الأوّلي – جنون اللامنطق، روايات التعذيب في المعتقلات، الديكتاتورية العربية مقطوعةً من شجرتي الزمان والمكان (رغم الثورات!)... يفترض أن لينا خوري سعت إلى إسقاط نص ستوبارد، "كل صبي طيب يستحق خدمة" (1977)، على البُنى المعروفة للأنظمة العربية. وإن كان ستوبارد قد انشغل، وقبل انهيار المعسكر الاشتراكي وجدار برلين، بتفانين الجزمة السوفياتية الحاكمة، ومنها اعتبار أي معارضة سياسية ضرباً من المرض العقلي. فإن خوري لم تبدُ معنية بأي مما يحدث من حولنا منذ محمد البوعزيزي. وإن تغاضينا عن هذه الفجوة، فلا بد سنغصّ بعبارات من نوع: "ما بحياتي تخيلت أن السجون الإسرائيلية أرحم من السجون العربية، من السجن الإسرائيلي بتطلع راسك مرفوع، من العربي بتطلع مكسور من الذل.. لازم انذلّ لأني قلت رأيي، لأني فكرت"، تقول الكاتبة المعتقلة (بوفرحات) لطبيبها النفسي (الرحباني). وفي مشهد آخر، تعظه (وتعظنا): "ما عندي عوارض، عندي آراء"، ليردّ الطبيب المتواطئ/المذعن لسجانيها، وبكل بداهة الدنيا: "ما آرائك هي عوارضك، تمرّدك هو مرضك".

M_Y-2.jpg

هي المباشَرة في أسطع تجلياتها. وبدلاً من أن يُلوى نص من سبعينات القرن الماضي، ليوائم عقل المتفرج ومتطلباته المركّبة في 2013، تقمّص السيناريو "المجدَّد" روح الزمن السوفياتي الذي تنقده المسرحية في الأساس. تستعيد التلقين، والبروباغندا، وإن كانت هنا بروباغندا "الحرية". لكنها حرية مدرسية، تمرّد يكتفي من طبقاته الممكنة بالقشرة.

ها هو "المجنون" (يمّين) يحكي كمثقف: "اللي ما في جواتو موسيقى بيكون قمعي". ورئيس المستشفى يُنادى بـ"سيادتك وسماحتك" ودكتور وكولونيل، وهو "دكتور في اللغة العربية بس عظيم يعني.. بيعرف صالحك أكتر منك". وها هي معلّمة المدرسة، بلباسها العسكري، تغسل دماغ تلميذتها (ألين سلوم) – ابنة الكاتبة المعتقلة، بالرواية الرسمية للنظام الحاكم في صيغة أكثر بدائية مما قد يبدر عن النظام ذاته: "نظامنا أكتر نظام ديموقراطي بالعالم.. عنا حرية تعبير وفنون". هكذا، كما لو أنه لا دور إشكالياً للفن، ولا تدخّل فنياً، ولا مُشاهد على شيء من الذكاء. حتى لعبة الجندر لم تستفد منها خوري. إذ تاهت فكرة محاولة السجانين التثبيت بأن المعتقلة رجل لا امرأة، في "زلات لسان" الطبيب الضائع بين تذكير المعتقلة وتأنيثها، والنكات الرحبانية متوقعة النبرة حين يرفض الطبيب نفسه الاعتراف بصدر مريضته، لأن "النظر بيغش". ودُفنت الإمكانات الإبداعية لتلك القطبة الدرامية، في خطاب المعلمة إذ تصرّ على تلميذتها كي "تعترف" بأن أباها هو السجين لا أمها.

M_Y-7.jpg

ربما كانت الأوركسترا أفضل ما في العمل. تفاعلها، بعازفيها، مع سير التمثيل والحوار، نقطة مضيئة في مسرَحَة حالكة التسطيح. ولعل استحضار أغنية "قوم فوت نام"، ضمن "ميدلي" كوميدي حيث تمتزج مع "بكتب اسمك يا بلادي" ومطلع الأغنية الإعلانية الشهيرة لحليب "تاترا"، يبرز فجأة كوخز في القلب. "قوم فوت نام" من مسرحية "فيلم أميركي طويل" (1980) لزياد الرحباني لا سواه، والذي أبدع آنذاك في جعل مستشفى المجانين كبسولة المجتمع اللبناني المخردق بحربه الأهلية. لبنان بهوياته الطائفية المتصارعة نهر دماء. بأحزابه، كل أحزابه. بعقائد أبنائه (بمن فيهم زياد نفسه)، وعُقدهم المحبوكة بالمؤامرة والمظلومية، المشبعة بالهستيريا اليومية، الملونة بشتى أشكال "الآخَر". لبنان الذي كان، وما زال، يغلي بالعنف. اللاوطن الذي ضحكنا عليه، وعلينا. "أرطة عالم مجموعين.. مقسومين". لا مفرّ من المقارنة. كان ذاك المستشفى حقيقياً، معالَجاً بأدوات أزمة فعلية، إنسانية قبل أن تكون سياسية. كان فناً. و"مجنون يحكي" خطاب. وزياد الرحباني يتيم "رشيد".        


increase حجم الخط decrease