|
والحال إن قرار "مهرجان دوفيل" ممثلاً في هيسبرت، بدا نابعاً من مُعطيَين اثنين، ليس بينهما ما ينقض أو يُسقط تبرئة محكمة الاستئناف لمعلوف. أولاً، تفادي "الشوشرة" على النسخة الخمسين من "دوفيل" في الشبكات الاجتماعية، رغم ثقة المديرة في قرار المحكمة وفي دولة القانون الفرنسية. وثانياً، مراعاة "حساسية" الضيوف الأميركيين، المبنية بدورها – أو هكذا اعتبرت هيسبرت – على صخب مواقع التواصل، من دون كثير توقف عند الفرق بين أصوات تعلو بقضايا ومطالب وحتى تشكيك قانوني رزين ومتين حقوقياً وثقافياً وجندرياً، وبين الضجيج المجاني حول عناوين كبرى محقة بصورتها العامة لكن تفاصيلها لا تدور بالضرورة حول ضحية أبدية من نوع وشكل وجندر واحد.
في مقال سابق بعنوان "الجنس والنبيذ والمفارقة الفرنسية"، تطرقنا إلى فوارق ثقافية، وتمايزات في صناعة السينما بين أميركا وفرنسا. وإذا كانت حوادث تحرش واعتداءات جنسية عديدة، في أوساط السينما الفرنسية، ما زالت تشغل الإعلام والرأي العام والدوائر الفنية، وأدت ضغوط مشهودة لـ"مي تو" المحلية إلى دفعها قدماً باتجاه نهايات قضائية مُنصفة لضحاياها، فإن قضية معلوف تبدو مُبرمة (حتى الآن) من حيث الحُكم بتبرئته. ويبدو قرار هيسبرت وفريقها أقرب إلى تسويات السينما التجارية مع "ما يطلبه الجمهور"، تلافياً لوجع الرأس، وربما لخسائر معنوية ومالية قد تنتج عن جلَبة الشبكات الاجتماعية المدججة بعواطف فوارة أكثر من صدورها عن منابع موضوعية...
هو التوصيف المكثف لعالم ما بعد الحقيقة، حيث تعوم أيضاً نظريات المؤامرة (بينهم مثلاً أنصار دونالد ترامب والناشطون ضد اللقاحات)، والمعلومات المضللة (حملة بريكست وغيرها)، وحيث استطاع دفق من الادعاءات المدججة بالحمأة، دون المعلومات، تشكيل الرأي العام بقوة أكبر من الحقائق الخاضع للتحقيق والإثبات. تالياً، استحق مصطلح Post-truth تطويبه كلمة العام 2016 في قاموس أوكسفورد...
تطرق ماكس فيبر، في كتابه "الاقتصاد والمجتمع"، إلى نوعين من العقلنة. إحداهما مُحتسبة، وتركن إلى أدوات واضحة تحليلية وعلمية، وكَونية إن جاز التعبير. والأخرى هي العقلنة الأكسيولوجية، المشبعة بالشغف وقِيَم ما فوق الاحتساب. وإذا كان بحثُ واحِدنا عن الحقيقة يدور حول رغبته في أن يكون حاملاً لها بالدرجة الأولى، فإن بحثه هذا لن يطول، وسيركن إلى نرجسية مرتبطة بإرادة الهيمنة، مهما حسُنت النوايا. الحقيقة المنفصلة عن الحقائق، تصبح "بديلة" وقوة مهيمنة تغذي صورة مثالية عن الذات المضطلعة بها: ذاتٌ أذكى، متمردة، متحررة (من عبء الإثبات والتوثيق)، مُغامِرة، وآمِنة في مُثُلها الخاصة.
يبدو أن حملة "مي تو"، مع الاعتراف بكل ما أنجزته من خروق للنظام الأبوي والذكوري في ساحات القضاء ودوائر الانتلجنسيا على حد سواء، تقف راهناً في مغطس ما بعد الحقيقة هذا. وتزيد من تورطها، الهواجسُ الجماهيرية للمتن الثقافي. ربما وصل الفَيض إلى الرُّكبتَين، ولا بد ممّن يفتح مجرى التصريف كي لا يرتفع فيبلغ الرأس. هكذا، يصبح انتظار ما ستؤول إليه دعوى ابراهيم معلوف المضادة، ذا معنى.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها