كأننا برحيل الياس خوري، نطوي صفحة، نتلقى إيذاناً بنهاية مرحلة. والكلام هنا ليس عن روايات الياس. ليس عن النقد والتأليف المسرحي، ولا عن تكوين الجمعيات الثقافية والتيارات السياسية، ولا عن العمل بالصحافة والأكاديميا، بكل ما يشمله ذلك من رحيق، بكل الصوت الذي كانَهُ ابن الأشرفية المهجوس بالقضية الفلسطينية، وعناوين اليَسار في عصره الذهبي. بل عن "المثقف العضوي" نتحدث. تلك الموجة التي تلقفها العرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وكان الياس أحد أبرز رموزها، حتى كاد تنظير أنطونيو غرامشي يبدو مفصلاً على مقاسه.
كأن وفاة الياس خوري، حقيقةً ومجازاً، استكمال لموت المثقف ذي الوظيفة الاجتماعية والسياسية. مُحترِف الاشتغال بالأفكار، والذي تنتجه كل طبقة من صفوفها بشكل عضوي ليخطّ ألفباء هيمنتها المشتهاة في وجه هيمنة السلطة، يموت بالمفرق، ويوشك نجمه على الأفول التام.
كان الياس لا يزال مراهقاً عندما انضم إلى صفوف حركة "فتح"، وعشرينياً عندما اشتعلت التظاهرات الطلابية في باريس في أيار 1968 فألهمت شوارع العالم، وأيضاً عندما شرّع "اتفاق القاهرة" مقاومة الفلسطينيين من لبنان العام 1969 وبدت الأحلام أكبر من الواقع وأثقل وطأة. وكان ثلاثينياً يجوب أزقة الحرب الأهلية التي خاضتها "الحركة الوطنية" كثورة تحررية مسلّحة لنُصرة المسحوقين سياسياً واجتماعياً، وقيادياً خمسينياً في "اليسار الديموقراطي" حينما نبتت أجنحة 14 آذار، ثم انكسرت. أما كامل عُمره فكان، أولاً وأخيراً، منصهراً في المسألة الفلسطينية.
ردح من الوقت طويل... وبموازاة وفاة الياس، يحتضر تاريخ من الثقافة كسلاح، والسلاح كقصيدة وحكاية حميمة في سهرات النار.
في زمن الياس خوري، كان البطل مزيجاً من مهارات ومواهب عديدة. متناقضات التحمت كالعشاق في صفو الليل. القتال، جنباً إلى جنب مع الشعر والرواية والأغنية. الصحافة صانعة الرأي العام، بجوار العمل السياسي المباشر الساعي إلى "تجنيد" الرأي العام، والمفترض أن يُسائلَه الصحافي بإسم الرأي العام. والتعبئة، يداً بيَد مع التفكيك، عبر تلاوين الفنون والبنادق والميكروفونات والمنشورات.
ولأن هذا المشرق واظب على نخر نظريات الصراع الطبقي، جاعلاً فيه ثقوباً كثيرة تمنعه من تفسير كل شيء، مثلما ثابر على تمييع الطبقات الاجتماعية في جبّالات الجماعة والحزب والقبيلة والطائفة، حتى حرم نفسه رؤية فقراء الطوائف يتحدون في وجه مافياتها... كان الياس خوري نسخة مشرقية من مثقف غرامشي العضوي. جسّده على طريقته. فهو، بعضويته في طبقة بيروتية وسطى أتاحت له إمكاناتها، انتمى أيضاً وبعمق إلى اليسار ومنظمة التحرير الفلسطينية. كانت "مسيحيته" ثقافية، و"إسلامه" هوياتياً للنضال. قضيته ما بعد كولونيالية، فيما تدور يومياته، وعمله وأدبه، في فُلك حداثوي ليبرالي.
هكذا فاض عن طبقته الاجتماعية وطائفته وقبيلته السياسية، وظل سيّالاً في ما بينها، ونطق بألسنتها كلها في آن واحد. كان ذلك زمنه، ورفاقه لبنانيون وسوريون وفلسطينيون ومصريون ويمنيّون وجزائريون ومغاربة. حالة، وتغرُب الآن خلف البحر، بحُلوها ومرّها.
لا يصف المثقفون العضويون، الحياة الاجتماعية، وفقًا للقواعد العِلمية فحسب، يقول غرامشي، بل إنهم يعبّرون بلغة الثقافة عن المشاعر والتجارب التي لا تستطيع "الجماهير" التعبير عنها بنفسها. من واجبهم، في رأي الفيلسوف الماركسي، مخاطبة المبادئ الغامضة للحكمة الشعبية وفطرتها، في مجالاتهم السياسية الخاصة، من أجل تمثيل أبناء الفئات المهمشة. وقد تعدد المهمشون الذين حملهم الياس خوري وركض، كتب ونشر ونَظَّم طوال عقود.
اليوم، أو بالأحرى منذ رحيل ما يمثله الياس، نعيش في عصر الناشط، السياسي، المثقف، الفنان... هكذا، كل على حدة.
ما زال هناك من الأدب والفنون والتجمعات، ما يتبنّى قضية. وأحياناً، يجاهد في سبيلها. الجندر والبيئة ومناهضة احتلالات متنوعة. التكنولوجيا في حقبة "ما بعد الإنسان" إذ ترث "ما بعد الحداثة". والقضية الفلسطينية. والطوائف بمظلومياتها وبشاعاتها. لكنه صخب السوشال ميديا، والمواطن-المراسل، والمُستخدِم – كل مستخدِم – كصاحب رأي مُبين وقبضاي زاروب من زواريب مليونية لكل جدل. يقتل المثقف العضوي على مهل، خليّةً خليّة، ويفرز مكانه شخصية أخرى لم تتضح كل معالمها بعد.
لا حنين بالضرورة في النعي، ولا استدعاء لأمسٍ لا أحد متأكداً من أنه كان أجمل.
لكنه، كما الرثاء بطبيعته، حزين. مثل فقدان الياس خوري.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها