الجمعة 2024/08/16

آخر تحديث: 18:12 (بيروت)

زياد الرحباني بطلاً أعزل

الجمعة 2024/08/16
زياد الرحباني بطلاً أعزل
(رسم من أرشيف سعد حاجو)
increase حجم الخط decrease
ثمة مَن حزن على زياد الرحباني. وثمة، في المقابل، مَن اعتبر أنه كفنان ما زال حاضراً بشخصه كما بأعماله المحبوبة المرتبطة بالراهن كأنه ألّفها اليوم، وبالتالي لا ينال منه حوار سوريالي ركيك كذلك الذي سرى في الشبكات الاجتماعية كنيران الصيف في غابات خضراء... في حين أن الحوار والمُحاوِرة يقولان الكثير عن انحطاط كل منحى لبناني، من التعليم إلى الفن وحتى منشورات فايسبوك.

لعلّ الشعورَين يصحّان هنا. فزياد الذي ظهر أخيراً، بعد طول احتجاب إعلامي وفني وحتى سياسي، يستحق طبعاً مقابلة أذكى وأعمق (وليس صعباً أن يكون أي شيء أذكى وأعمق مما شاهدناه). بل يستأهل مقابلة طبيعية، لا تكتنفها كل هذه السماجة وذاك الكمّ المذهل من الرثاثة الحمقاء. وزياد بدا مختلفاً، مخطوفاً... وإلا فكيف له أن يوافق على مقابله كهذه، ومع سائلةٍ كهذه؟! بدا زياد بلا زيادياته الغالية الحادة. خُذل جمهوره في شوقه إليه، وحتى مَن لا يستسيغه خُذل في مقارعةِ خارق. ومن هنا الحزن.

وبدا اللقاء، في عجائبيته، نتيجة حتمية للانهيار العميم. حلقة ملتوية متصلة بغرائبية آل الفتى وغموض بيتهم/مقبرتهم في كفرشيما، أي القصة التي صارت صحافية بلا صحافة، وشعبية بلا أركان لشعبيتها سوى التلصص والإثارة الرخيصة. ومن هنا رثاء العام اللبناني من زاوية الخاص الزياديّ.


لكن المسرح يتسع لملاحظة ثالثة. كان ذلك زياد الرحباني، في مقابلة مع معلمة بلهاء في مَدرَسة مجهولة "بالعربية والفرنسية"، تطرح بالانكليزية أسئلة لملمتها على الأرجح من "تشات.جي. بي تي" بعدما سألته "كيف أجري مقابلة مع موسيقي شهير؟".

كان ذلك زياد. ببرودته الطاغية، تقاسيم الوجه الثابتة في سخرية مُضمرة، إجاباته العادية التي لا شيء عادياً فيها. كان ذلك "نور" من "شي فاشل"، مجيباً على أسئلة الصحافية المعجونة بكوميديا الكليشيه حول مسرحيته "جبال المجد"، قبل أن يحيلها إلى الممثلة الصاعدة "فيرا"... "فيرا عاملة 18 سنة".

كان زياد، في المقابلة المبثوثة في فايسبوك، هو "رشيد" من "فيلم أميركي طويل"، والذي دوّخ طبيب الأمراض العقلية ولم يسمح له أن "يعرف نفسيته". زياد "زكريا" أمام صاحب الحانة إذ يجري حساباته بالورقة والقلم ويحرم النادل البسيط من زيادة راتبه، والنادل لا يأتي بما يُنتظر منه. زياد عازفاً البيانو خلف فيروز بجدّ ولطف، ومغنياً لفقراء وكادحين بلا جهد سوى أنه يتدفق هكذا من تلقائه. ثم زياد صافعاً الجماهير، ومنظّراً لتغيير الشعب بدلاً من النظام، وأيضاً بلا جُهد يُذكر.

وخلف هذا وذاك، تراءى خيال الضابط الدولتي المضبوط في "بخصوص الكرامة والشعب العنيد". وهفّ طيف زياد، كزياد، جالساً في الصف الأمامي مستمعاً إلى خطاب حسن نصر الله برصانة أكثر من ثقيلة، أو متحدثاً في مقابلات سابقة عن إعجابه بستالين وفلاديمير بوتين وكأنه يحسم كروية الأرض وزرقة البحر. زياد، كزياد، ضيف ندوة في الجامعة الأميركية في بيروت حيث رفع طلاب يافطات تندد بوقوفه ضد الثورة السورية على نظام بشار الأسد... وكانت أيام الثورة في مهدها الجميل، وكان الضيف الفنان على ثباته، بلا ردّ فعل أو إجابة أو إعادة نظر.

كان هو، زياد، في المقابلة الأخيرة الفظيعة. إنما الشخصية بلا أظافرها، بلا نصّها وخصوماتها وتحالفاتها، وبلا تراكيبها السهلة الممتنعة. كان الوجه الثابت، بلا جدّ ولا نكتة. القول اليومي المتوقع بلا التماعة المعنى تواطؤاً مع مشاهديه، ولو فقط على ذلك الكائن الخرافي الذي انبرى فجأة لمحاورة زياد.

كان زياد. لكن في منزلة بين منزلتَين. بين التمثيل والحقيقة. الحضور بالغياب. الوجه والنبرة والجلسة، بلا شفرة تُدمي الضحك وتُسيله كالبداهة التي لا يفطن لها سواه. الصورة بلا الأصل. قميص غادرته الذات. كان زياد. بطل مسرحياته وموسيقاه العبقرية، أعزل مما يجعله زياد الرحباني.   

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها