السبت 2024/07/13

آخر تحديث: 01:14 (بيروت)

باريس المرّات الأولى

السبت 2024/07/13
باريس المرّات الأولى
صورة متخيلة لحفلة افتتاح أولمبياد 2024 المرتقبة (olympics.com)
increase حجم الخط decrease
إذا كانت الرياضة ليست مجرد رياضة، بل كذلك سياسة واجتماع وثقافة، وقوة ناعمة لا تقل شأناً عن المسارات الدبلوماسية... وإذا كانت السياسة هي أيضاً لعبة، إثارة وفُرجة، ومباريات بمشجعين وجمهور، تنتهي بتصفيات وميداليات... فلا ينقص إلا أن نضيف هذه على تلك، ونترك كيمياء أولمبياد باريس تعمل، ثم تفرقع بالكثير من "المرّات الأولى".

استقطبت فرنسا، بانتخاباتها الأخيرة، أنظار الكوكب. فبدت الحملات الرئاسية الأميركية وكأنها تخبو لوهلة، رغم اشتعالها بالفضائح والنميمة والأخطار الكونية في ما لو سقطت أعظم قوة في العالم بين يدي مَن لا يؤتمَن أو لا يُعوّل عليه. وخبت أيضاً -جماهيرياً- الانتخابات البريطانية، رغم نتائجها المُسفرة عن عودة "العمال" إلى الحكم بعد غياب 14 عاماً.

ما زالت فرنسا بين المختبرات السياسية الأكثر إثارة للاهتمام في العالم، بتنوّع قواها السياسية وكذلك القوى المدنية والسكان وغِنى الخطاب السياسي على مدّ المروحة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. متابعة للمتعة، وتمرين ذهني وعملي لهواة النوع ممن يقفزون عن الكنبة مع إعلان نتائج الانتخابات في التلفزيون مثلما يتقافز مشجّع سدد فريقه المفضل هدف البطولة في الدقائق الأخيرة.

وتستعد باريس الآن لعَرض جديد. ستقف في المسرح الدولي لتُراقص أولمبيي 2024، من 26 تموز إلى 11 آب. تنتقي أزياءها وحلّتها، وتختبر الأضواء التي ستسلطها على مفاتنها. ومتابعة تلك الخيارات تفتح باباً على عقل المدينة ووجدانها، كيف ترى نفسها وكيف تريد للدنيا أن تراها. فالمدينة، كالفرد، تمتلك شخصية ومزاجاً، جسداً ووعياً. وباريس الآن تتنحنح قُبيل أدائها الأولمبياد، بعدما غنّت انتخاباتها لجمهور العالم، وفي الوقت نفسه، أقلقت الجميع بتغييراتها الحكومية المُنتظرة، على حُسن انتظام الحدث الرياضي المُنتظر. لكنها باريس، المتزلجة على صفحة الماء بأناقة ومعنى.. ولو كان ماءً عكراً في نهر السين الذي يغتسل للمرة الأولى منذ مئة عام.

للمرة الأولى في تاريخ الأولمبياد، لن تنطلق الألعاب الصيفية في استاد رياضي ضخم، بل في نهر. الفرق المشاركة في مَواكب الافتتاح ستُبحر في نهر السين. المدينة هي الملعب الأولمبي الكبير، نهرُها المَسار، وأرصفة الضفاف هي مدرّجات الجمهور. كسرت باريس التقاليد بجسدها الذي يحتضن أجساداً تبذل جوهرها لتتفوق، لترتفع بالأيدي والأرجُل وحتى بالكراسي المتحركة إلى مصاف الآلهة، لتحلم بالكمال. وذلك رغم التحديات الأمنية والخطط البديلة تحسباً لمفاجآت. ورغم اللوجستيات المتقلبة كالطقس وارتفاع منسوب المياه في السين وتلوّثه، ومتانة الجسور، وفوق ذلك مراعاة البيئة الطبيعية للنهر الذي تجهد الدولة في تنظيفه وجعله صالحاً للسباحة للمرة الأولى منذ قرن. هكذا، تحتفي باريس بنفسها مثلما تحتفل بالحدث الذي تستضيفه. "مع الضوء الطبيعي لغروب الشمس، سيكون الحدث أروع، وذا بُعدٍ شاعري حقيقي يدعو الرياضيين والجمهور إلى تقدير جمال مدينة النور"، بحسب رئيس اللجنة المنظّمة لباريس 2024، توني إستانغيه. أما المدير الفني لحفلتَي الافتتاح والاختتام، الممثل والمخرج المسرحي توماس جولي، فيقول بأن "فرنسا هي إديث بياف، وهي أيضاً الأوبرا، والراب، مجموعة كاملة من الأساليب الموسيقية... الفكرة هي إبراز هويات متعددة"، بمشاركة 3000 فنان، بما في ذلك 400 راقص بقيادة الكوريغراف الشهير مود لوبلاديك، الذي يقول إنه "لن يكون هناك جسر واحد في باريس بلا راقصين". ولكل راقص(ة) سيُجهّز زيّ وماكياج، فلا يتشابه منهم اثنان.  

وفي 28 آب، ستستضيف فرنسا أول دورة ألعاب بارالمبية صيفية في تاريخها. ومجدداً، ستدفع زوارها للعب في الخارج، للافتتاح في الشارع، الشانزيليزيه وساحة الكونكورد. آلاف الرياضيين وأكثر من 180 وفداً سيؤدون استعراضاً في قلب المدينة النابض، وسينضم إليهم مئات الفنانين و150 راقصاً، بما في ذلك محترفون من ذوي الاحتياجات الخاصة. والتيمة الرئيسية: الفكاهة. فالشاعرية هنا ستكون ثقيلة وبشعة. باريس تعرف، باريس تفهم. الخفّة أحياناً هي القوة.

وبعد...
يتلمّس الجسد الفرنسي أطرافه الممتدة خارج أراضي المتروبول، فيجعل تاهيتي (ذات الحُكم الذاتي والمنتمية إلى الجمهورية الفرنسية)، بموازاة باريس برج إيفل، وفرساي، وجسر ألكسندر الثالث، والأنفاليد حيث يرقد نابليون، إذ ستستضيف المستعمرة الفرنسية السابقة مسابقة ركوب الأمواج. خيار أثار جدلاً، مثل كل شيء تقريباً في هذه البلاد، لكنه يفي بتعهد منظمي باريس 2024 نشر الألعاب الأولمبية في أنحاء الأراضي الفرنسية.

وفي أولمبياد باريس، رياضة تشارك للمرة الأولى: البريك دانس. نعم، رياضة، وأولمبية! نكهة المدن الكوزموبوليتية العصرية وشبابها. مع إضافات ثلاث: مسابقة لوح التزلج (skateboard) بكل ما تحمله من ثقافة الشارع المديني الحديث ويفاعته وربما تمرّده، إلى جانب ركوب الأمواج، والتسلّق الرياضي.

وفي الجندر، تحقق باريس 2024 هدفاً جديداً، بمسابقات وميداليات مختلطة بين الجنسين. في التسلق والفروسية، سيتنافس الرجال والنساء معاً، بعدما كانت اللجنة الأولمبية الدولية دفعت بالتزامها الاختلاط الجندري في ألعاب القوى، السباحة، تنس الطاولة، الترياتلون، الجودو، والرماية. وبحسب معلّقين رياضيين، فإن الرياضات المختلطة تتجاوز تعزيز المساواة بين الجنسين، لتضيف أبعاداً تكتيكية جديدة إلى المسابقات، وغالباً ما تؤدي إلى نتائج غير متوقعة ونهايات مثيرة. اللجنة الأولمبية الدولية ليست وحدها. الذهنية النسوية الفرنسية مرئية جداً.

وستمثل أفغانستان، ثلاث رياضيات نساء، إلى جانب ثلاثة رجال. هن اللواتي لم تعترف بهن حكومة "طالبان" كجزء من الفريق الممثل لبلادهن، لكن باريس 2024 فعلت. هذه هي المشاركة الأولمبية الثالثة لعدّاءة المئة متر، كيميا يوسفي، التي حملت علم وطنها في أولمبياد طوكيو وما لبثت أن هربت منه بعد عودة طالبان للحكم لتصبح لاجئة إلى أستراليا. لكنها المرة الأولى التي تشارك فيها ثلاث رياضيات إناث في المسابقات، وتحديداً ألعاب القوى وركوب الدراجات. لعلها فرنسا تقول: ما زلتُ أرض لجوء وتحرر.

في أولمبياد باريس 1900، نافست النساء للمرة الأولى، فبلغت نسبتهن 2,2% من مجموع المشاركين. وإذ راح العدد يرتفع تدريجياً، بـ23% في لوس أنجليس 1984، و44% في لندن 2012، و48% في طوكيو 2020، ففي باريس 2024 سيتساوى الرجال والنساء عددياً للمرة الأولى (التعبير سيرد كثيراً في هذا النص، لكن لا مفر، فالمرات الأولى تكاد تنظم أولمبياد خاصاً بها!). أكثر من نصف مسابقات الميداليات سيكون مفتوحاً للرياضيات الإناث. حتى الاهتمام الإعلامي جرى التفكير فيه، فبُذلت جهود كبيرة لضمان جدولة مسابقات السيدات والرجال بشكل عادل، على مدار 16 يوماً من الألعاب الأولمبية، ما يعطي الصحافيين فرصة تحقيق توازن أفضل في التغطية. وللمرة الأولى، سيَختتم الماراثون النسائي، برنامج ألعاب القوى، بدلاً من ماراثون الرجال، وهو ترتيب يحمل رمزية معنوية باعتبار الماراثون الختامي تتويجاً للأسبوعين الأولمبيين بكاملهما.

ولتكتمل النكهة الفرنسية، وتذوّق مكوناتها كافة، لا بد من متابعة أخبار الإضراب الذي دعت إليه نقابة العمال، في 17 تموز الحاري، في المطارَين الرئيسيين في العاصمة، حيث من المتوقع مرور 350 ألف شخص يومياً، فضلاً عن معظم الرياضيين ومعدّاتهم. إضراب للمطالبة بمكافآت الأولمبياد وخطة توظيف ضخمة، ويذكّر بإضراب طياري الخطوط الجوية الفرنسية، مع سائقي سيارات الأجرة وعمال النقل الآخرين، عشية انطلاق مونديال 1998 الذي استضافته فرنسا. وقبيل أولمبياد 2024، تقدمت الشرطة أيضاً، ومراقبو الحركة الجوية وجامعو القمامة وموظفو الحكومة المركزية وسائقو المترو والقطارات ورجال الإطفاء بمطالبات برفع الأجور. قطاعات ونقابات وأجهزة قلما تراها في أي مكان آخر في العالم تجتمع في جُملة واحدة ناهيك عن حركة مطلبية. وقراءة جُملة الأسماء هكذا كالبداهة، تكاد تمتلك رائحة رغيف الباغيت وطعم النبيذ، ذلك أنها فرنسية في الصميم، ولا تفسير آخر.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها