شهدت محافظة السويداء خلال الأيام القليلة الماضية، أحداث عنف، سقط فيها قتلى وجرحى. الرابط بين تلك الجرائم أنها غامضة، مجهول من يقف خلفها، مع أنها تزامنت مع توتر بين فصائل محلية مسلحة على خلفية اتهامات متبادلة حول حادثة خطف عضو لجنة "حل النزاعات".
مصادر "المدن" قالت إن "إطلاق النار الذي شهدته مدينة السويداء، بعد منتصف ليل الأحد/الإثنين، طال مناطق متفرقة من المدينة، مع أن الاشتباك بين الفصائل حصل في موقع واحد لمدة لا تتجاوز الدقائق. إطلاق النار استمر حتى ساعات الفجر، بقصد إرهاب السكّان وإشاعة الفوضى والرعب، إضافة إلى تجوّل ملثمين وسيارات غير مألوفة في المدينة، ما يوحي بأنّه حدث مفتعل أو استثمار من جهات تريد تأجيج الصراع".
الإثنين، قُتل في مدينة صلخد ماهر الشعراني، أحد عناصر مفرزة "الأمن العسكري"، في ظروف غامضة أيضاً. واتهمت صفحات إعلامية تُديرها أجهزة الأمن فصيل "قوات شيخ الكرامة" في صلخد بالجريمة. الصفحات ذاتها، كانت قد أشاعت في وقت سابق وقوف آل مزهر، خلف مقتل ربيع ناصيف، أحد عناصر "قوات شيخ الكرامة" في صلخد. الفصيلان نفيا علاقتهما بحادثتي القتل، ونسبوهما لجهات مجهولة. وبغض النظر إن كان الفصيلان قد قاما فعلاً بعمليات القتل أم لا، إلّا أنه كان من اللافت حجم التحريض وبث الشائعات والاستثمار الممنهج للأحداث من قبل القوى الأمنية وماكينتها الإعلامية.
ورفدت هذه الأحداث بخطوات تحريضية أخذت طابعاً أهلياً وإن كانت بإيعاز من المخابرات. إذ دعت بعض الزعامات التقليدية الدينية والاجتماعية المعروفة بارتباطها بالأجهزة الأمنية، الى اجتماع مخصص لأهالي مدينة السويداء، في مقام عين الزمان. وفي هذا الاجتماع قدّم بعض الأشخاص المحسوبين على الأجهزة الأمنيّة مداخلات تحريضية ضد أهالي مدينة صلخد، في محاولة من هؤلاء نقل الصراع إلى مستوى مناطقي وعشائري وعائلي. ورفض بعض الحضور هذا الخطاب، وأكّدوا على السلم الأهلي، وحصروا المشكلة بالأشخاص الخارجين على القانون.
وفي حدث منفصل لاحق، أطلق مجهولون النار على الشاب باسم فايز الحمود، الأربعاء، في قرية المزرعة ما أدى إلى إصابته، فسارعت "صفحات الفتنة"، كما بات يطلق عليها المجتمع المحلي في السويداء، إلى اتهام آل الحسين في قرية المزرعة، إذكاءً منها لنار الفتنة والثأر بسبب حوادث سابقة بين العائلتين على إثر قتل أحد أفراد عائلة الحسين للشيخ مهند الحمود العام الماضي، ما حدا بعائلة الحسين إلى إصدار بيان استنكرت فيه "جميع ما ورد في صفحات التواصل الاجتماعي التي تتهمنا بشكل مباشر أو مبطّن، وتلقي علينا مسؤولية ما جرى للمدعو باسم فايز الحمود".
والرابط بين هذه الأحداث وغيرها المتعلقة بالخطف والسلب والنهب والاتجار بالمخدرات وإغراق المحافظة بالأزمات الخدمية المفتعلة، هو التكثيف لها والتحريض عليها وإشاعة الفوضى واللعب على وتر المناطقية والعائلية وتأجيج الأحقاد الدفينة. ويبدو ذلك مخططاً لتفعيل الثأر وتفتيت القوى المحلية التي باتت تشكّل قوة دفاع ذاتيّ للمحافظة، خاصة بعدما أظهرت شراسة وتوحداً في صد غزوة تنظيم "داعش" على المحافظة في صيف العام 2018.
ويرى متابعون للأحداث الأخيرة في المحافظة، أن ما يجري ليس مصادفة، بل هو عمل منظّم من قبل الأجهزة الأمنية واستراتيجية جديدة للنظام تجاه السويداء، لتفتيتها من الداخل بعدما فشلت جميع محاولات الأجهزة الأمنية في ضرب السويداء مع محيطها. وذلك تارة بإشعال فتيل الفتنة بين درعا والسويداء منذ الفيديو الشهير لعبدالسلام الخليلي الذي شتم فيه الدروز وشتم سلطان باشا الأطرش، في الأشهر الأولى للثورة، والذي تبيّن لاحقًا أنّه تابع لتلك الأجهزة. وتارة عبر افتعال أحداث عنف في السويداء وترويج الماكينة الأمنية لشائعات تفيد بأن المجموعات المسلحة في درعا هي من نفذتها وصولاً إلى الخطف والخطف المضاد، الذي قامت به عصابات من المحافظتين مدارة أمنيّاً. هذا بالإضافة إلى محاولة جرّ الدروز إلى الاقتتال مع بدو السويداء؛ إذ افتعلت أحداث لعل أشهرها كان إمطار مدينة السويداء بالقذائف في حزيران/يونيو 2015، واتهام البدو فيها، ليتبيّن لاحقاً أنّها أطلقت من مواقع عسكرية تحيط بالمدينة. إلّا أنّ هذه المحاولات كانت آثارها جانبية ولم تصل إلى حدود الكارثة المخطط لها.
في تموز/يوليو 2018 اتجه النظام إلى معاقبة السويداء على حيادها ورفض أبنائها الخدمة العسكرية؛ فنقلت مجموعات من تنظيم "داعش" إلى بادية السويداء الشرقية وأفسح لها المجال لمهاجمة السويداء، بعد سحب قوات النظام من القرى الشرقية، وسحب أسلحة بعض الفصائل المحلية في القرى الشرقية المحاذية للبادية. إلّا أنّ النظام فشل بإخضاع السويداء. بل استطاعت المحافظة بقواتها المحلية التي تجمّعت بطريقة غريزية وتوحّدت رغم تبايناتها، صد غزوة تنظيم "داعش" وقتل العشرات من عناصره. بعدها توتّرت قيادات النظام التي كانت تتوقع أن دخول داعش السويداء، سيدفع أهلها لطلب السماح والرحمة. ولعل هذا بدا واضحاً خلال لقاء بشار الأسد مع أهالي المختطفين الدروز، حيث بدا عليه الانفعال وهو يضرب بكفه على ركبته بطريقة هيستيرية.
والآن، وبعد فشل تلك المحاولات في إخضاع السويداء من خارجها، ووصول النظام إلى قناعة أن الدروز يتكتلون غريزياً عند شعورهم بالخطر الخارجي كونهم أقلية طائفية تحمل مظلومية تاريخية في لاوعيها الجمعي، انتقلت الأجهزة الأمنية إلى العمل بالتعاون مع من تشغلهم من مجموعات الخطف والجريمة والاتجار بالمخدرات، على تدمير السويداء ذاتياً. وذلك، عبر الضغط من الداخل لضرب السلم الأهلي، وإغراق المنطقة بالصراعات البينية، ومن ثم تفتيتها لإخضاعها بأقل الخسائر العسكرية الممكنة وبأقل قدر من الإحراج الدولي والإقليمي كونها تتعامل هنا مع أقلية طائفية ذات امتداد إقليمي. وتستحضر أجهزة النظام بذلك تجربة 1947 التي استنزفت السويداء، والتي قسمت جبل العرب إلى فريقين متناحرين؛ الشعبية والطرشان، يُداران ويُدعمان من قبل دمشق.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها