هدأت الاشتباكات، بين "حركة أحرار الشام" و"هيئة تحرير الشام" في عموم إدلب، ومعبر باب الهوى الحدودي بشكل خاص، بعدما توصل طرفي الاقتتال، الجمعة، الى اتفاق يقضي بوقف إطلاق النار، وإطلاق سراح المعتقلين لدى الطرفين، وانسحاب الفصائل من المعبر وتسليمه لإدارة مدنية، بحسب ما جاء في بيان لـ"الحركة" نشره الناطق الرسمي باسمها محمد أبو زيد.
ولم يصدر أي تعقيب من الطرفين على بنود الاتفاق، أو توضيح وتفسير لآلية تطبيق. ولا تزال الأوضاع متوترة بين الأطراف المتحاربة، ويسود ترقب حذر في معبر باب الهوى، الذي ما يزال محاصراً من قبل "جبهة فتح الشام/النصرة سابقاً" (المكون الأبرز في "هيئة تحرير الشام).
مصدر مطلع، قال لـ"المدن"، إن الاتفاق بين الطرفين نصّ على خروج من يرغب من مقاتلي "أحرار الشام" إلى أي مكان يختارونه في إدلب أو في ريف حلب الشمالي، وأن لا تعود "أحرار الشام" إلى أي منطقة خسرتها خلال الاشتباكات والتي ستبقى تحت سيطرة "تحرير الشام"، على أن يتمّ إطلاق سراح الأسرى بشكل فوري، ويتم تسليم المعبر لإدارة مدنية لا علاقة لها بأي فصيل. المصدر نفى أن يكون الاتفاق قد نص على اندماج الطرفين ضمن فصيل عسكري واحد.
وبعد ساعات على دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ بين الطرفين اتهمت "هيئة تحرير الشام" فصيل "ألوية صقور الشام" التابعة لـ"الحركة" بخرقها للاتفاق المبرم، وقنص أحد عناصر "الهيئة" في ريف حماة الشمالي، لكن "صقور الشام" نفت ذلك على لسان قائدها أبو عيسى الشيخ، الذي أكد في "تويتر" أن اتهام "الهيئة" لـ"الصقور" حول خرق اتفاق وقف إطلاق النار غير صحيح، و"الحركة" ككل ملتزمة بتطبيق ما تم الاتفاق عليه. وأوضح الشيخ أن "قطاع حماة" التابع لـ"الهيئة" هدد بدخول رتل عسكري انطلاقاً من بلدة الرامي باتجاه بلدة سرجة التي تسيطر عليها "الحركة"، لاقتحامها فتم إرسال تعزيزات إلى هناك تحسباً لذلك.
ولا يُعرف بعد إن كان الاتفاق سيعيش طويلاً، فلكل من "الأحرار" و"الهيئة" سجل حافل من الاتفاقات التي تم خرقها بعد ساعات أو أيام في أحسن الأحوال من عقدها. "أحرار الشام" لديها مصلحة الآن في التهدئة لتعيد ترتيب نفسها أو على الأقل لتمنع تفككها بشكل كامل، أما "الهيئة" فلا مصلحة لديها في الانصياع لاتفاق لم يحقق لها أبرز أهدافها؛ القضاء كلياً على "الحركة"، المنافس التقليدي لـ"فتح الشام". ويمكن أن يكون هذا الاتفاق خدعة جديدة لامتصاص الغضب الشعبي ضد "الهيئة" كي تعود من جديد لتكمل معركتها بعد ان تُحمّلُ "الأحرار" مسؤولية خرق الاتفاق. وربما تضمن الاتفاق بنوداً أخرى لم تظهر بعد، قد يكون من بينها إنهاء "الحركة" تدريجياً.
أثبتت المعركة الانقسام الحاد في صفوف "أحرار الشام"، وضعف بنائها التنظيمي أمام "الهيئة" التي بدت متماسكة حتى الساعات الأخيرة على الرغم من خسارتها أكثر من 50 عنصراً خلال المعارك التي استمرت لأكثر من 72 ساعة في مختلف مناطق ادلب. الغالبية العظمى من مقاتلي "أحرار الشام" لم يشاركوا في الرد على "الهيئة". وعدد لا يستهان به فضّل اعتزال القتال واستسلم لـ"الهيئة" في ريف ادلب، وقسم آخر انضم لصفوف "الهيئة" مثل "قاطع البادية" و"لواء الفتح" في كفرنبل، في حين تصرّف عدد آخر من الكتائب والألوية وكأن الأمر لا يعنيه في ريفي حلب الجنوبي والغربي وريف ادلب الشرقي وريف حماة الشمالي. وأبرز التشكيلات التي اعتزلت القتال؛ "لواء الإيمان". التشكيلات التابعة لـ"الحركة"، والتي ظلّت بعيدة عن الاقتتال، أبقت على قنوات تواصل مع "الهيئة"، ضمنت من خلالها تحييدها عن الصراع.
مصدر عسكري من "أحرار الشام"، قال لـ"المدن": "الأسباب الرئيسية التي دفعت طيفاً واسعاً من أبناء حركة أحرار الشام للتقاعس عن نصرة إخوانهم في الحركة ضد بغي جبهة فتح الشام يعود لتورعهم عن إراقة الدماء، ويعتقد غالبيتهم بحرمة القتال". فـ"الحركة" لم تكن جاهزة لهذا السيناريو، وكانت تظن أن ما سيجري كسابقاته من محاولات "فتح الشام"، التي يتم إفشالها وانهائها في العادة بتوقيع اتفاقات بحضور شخصيات جهادية مقربة من كلا الطرفين مثل عبدالله المحيسني، وعبدالرزاق المهدي، وأبو محمد الصادق، وأبو حمزة المصري، وغيرهم.
مشهد الاقتتال الراهن يعيد إلى الذاكرة ما حدث نهاية العام 2013 ومطلع العام 2014، عندما كانت "أحرار الشام" هي القوة الأكبر التي تسيطر على الرقة وريفها ومناطق واسعة من ريف حلب الشرقي كالباب ودير حافر ومسكنة. حينها تعرضت "الحركة" لأعنف هجوم ضدها شنّه تنظيم "الدولة الإسلامية" وتمكن خلاله من السيطرة في وقت قياسي على مساحات واسعة من الأراضي المحررة. وكان من بين الأسباب الأكثر تأثيراً على أداء "الحركة" هو اعتزال قسم كبير من مقاتليها قتال التنظيم، بعضهم انضم إلى القوة المعادية وآخرون فضلوا الفرار على أن يريقوا دماء المسلمين، وفق تصورهم.
وترافقت ساعات الاقتتال الأخيرة بين الطرفين مع معلومات تفيد بتدخل وشيك للمعارضة في "درع الفرات" لمساندة "الحركة" في وجه "الهيئة"، ومعلومات عن أن تركيا لن تسمح بالقضاء على "الحركة"، لكن هذه الأخبار ظلت في إطار التمنيات تبادلها ناشطوا المعارضة في مواقع التواصل الاجتماعي، وانتقلت إلى الشارع الذي خاب أمله أخيراً بعدما شاهد مهمة "فتح الشام" قد قاربت على التحقيق.
لم يكن يلزم "أحرار الشام" في ادلب المقاتلين لتستدعي مئات قليلة منهم من مناطق "درع الفرات" في ريف حلب، فـ"الحركة" على الرغم من خسارتها الكبيرة لتشكيلات اعتزلت القتال معها ضد "الهيئة" ما تزال تمتلك قوة ضاربة ومواقع استراتيجية تمكنها على الأقل من الصمود لشهور. وربما أريد لجماعات "الأحرار" التي قررت القتال أن تحشر جميعاً في مكان واحد ليتم القضاء عليها كلياً، أو إجبارها على الاستسلام. وأي حديث عن إرسال آلاف المقاتلين من "درع الفرات" لنصرة "الأحرار" في إدلب كان مجرد تسجيل موقف. إذ لم يمضِ شهر واحد على الاقتتال الذي نشب بين فصائل من "درع الفرات" مع "أحرار الشام" بالقرب من مدينة الباب في ريف حلب الشرقي، أصدرت "الحركة" على إثره بياناً أكدت فيه أنها تتخوف من وجود مساع لإنهائها هناك، وها هي اليوم غادرت مناطق "درع الفرات" من دون أي تكلفة.
في ريفي حلب الغربي والجنوبي المتصلة بإدلب، ظلّت الأوضاع هادئة، وكما كان متوقعاً لم يمتد القتال إلى تلك المواقع، رغم بعض الاشتباكات المتقطعة في عدد من البلدات والمدن. كذلك ظلت الجبهات بنسبة كبيرة متوازنة، انسحبت أعداد قليلة من مقاتلي "الحركة" و"الهيئة" وحل مكانها مقاتلين تابعين لكل من "حركة الزنكي" و"فيلق الشام". لكن "الزنكي" لم تتمكن حتى اللحظة من وضع يدها على المواقع المهمة التي كانت تتمنى انسحاب "أحرار الشام" منها مثل جبل الشيخ بركات قرب دارة عزة في مواجهة "وحدات الحماية"، وسلسلة مرتفعات أخرى في ريف حلب الغربي، لكن "الزنكي" واثقة أن مآل الأمور سيوصلها إلى رغباتها. الكتائب التابعة لـ"أحرار الشام" في ريف حلب، ومعظم مقاتليها من أبناء الريف، اعتزلت القتال، وفي حال تفكك "الأحرار" ستكون أمام خيارات محدودة كالانضمام إلى واحدة من الفصائل الموجودة؛ "الزنكي" أو "فيلق الشام".
تم التخلي عن "الحركة"، لا بل خُذلَت، هكذا يشعر أبناؤها الذين قرروا الوقوف أمام مخطط القضاء عليهم، باشتراك الحلفاء، وفصائل معارضة مقربة منهم. "الحركة" تجرعت من الكأس الذي تجرعت منه سابقاً فصائل الجيش الحر في ريف حلب؛ "جيش المجاهدين" و"ثوار الشام" و"الشامية"، ممن قضت عليهم "جبهة فتح الشام" في بداية العام 2017. حينها وقفت "الأحرار" موقف المتفرج الذي أمن فقط ملاذاً أمناً للفارين من عصا "فتح الشام"، بشروط "الأحرار" لا شروط الفارين.
أداء كل من "حركة الزنكي" و"فيلق الشام"، بشأن قوة فض النزاع، كان هزيلاً، وبدا كأنه في إطار ارضاء الشارع. فبعد أن تجهزت الأرتال، ظُهر الجمعة، للذهاب إلى معبر باب الهوى ونقاط التماس المباشر بين طرفي القتال، انسحب "فيلق الشام" من دون أي تبرير، وردّت "الزنكي" ببيان اتهمت فيه "الفيلق" بإفشال المساعي الرامية لوقف النزاع. وجاء رد "الفيلق" سريعاً، مؤكداً أن قراره جاء بعدما جلس الطرفان على طاولة التفاوض في المعبر، وتوقف الاقتتال بينهما، ولذلك انتهت المهمة التي كان من المفترض تأديتها.
لا يمكن الجزم بما ستؤول إليه الأمور خلال الساعات القادمة، وهل سيعيش الاتفاق بين "الأحرار" و"الهيئة". فهل يمكن القول أن تفكيك "أحرار الشام" سيكون أمراً واقعاً في القريب العاجل؟ وبالطبع لن يكون معبر باب الهوى، كما جاء في نص الاتفاق، بإدارة مدنية، ويبقى التساؤل عمن سيكون الأكثر حظاً في إدارته؛ "فيلق الشام" أم "حركة نور الدين الزنكي"؟
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها