لا تبدو معركة فك الحصار عن حلب سهلة، ولا مجريات المعارك تصب دائماً في صالح المعارضة التي بدأت الهجوم وحققت مكاسب سريعة على الأرض خلال الأيام الأولى من المعركة. النظام وحلفاؤه من المليشيات، وروسيا بطيرانها وخبرائها العسكريين، يدركون أهمية المعركة التي باتت مصيرية وتهدد بقاء مشروعهم وتقرر شكله خلال الفترة المقبلة. فالمعركة كما تعني الكثير للمعارضة بأبعادها العسكرية والسياسية، كذلك هي للنظام وحلفائه.
قوات النظام المليشيات، تمكنت من امتصاص الصدمة الأولى التي وجهتها المعارضة، وحشدت كل طاقاتها في حائط صد دفاعي غربي، وجنوب غربي حلب، مستفيدة بذلك من التعزيزات العسكرية الموجودة أصلاً، والتي ساهمت في حصار ضواحي حلب الشمالية في تموز/يوليو، وتمكنت حينها من حصار أحياء حلب الشرقية التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة والتي يقطنها قرابة 350 ألف مدني، يُشكلون حاضنة الفصائل الحلبية المسلحة.
في حلب وخلال الشهرين الماضيين ضاعفت المليشيات من أعداد مقاتليها، وزج "الحرس الثوري" الإيراني و"حزب الله" اللبناني بالمزيد من الخبراء والعسكريين في جبهات القتال، واستقدمت المليشيات تعزيزات دفاعية وهجومية من مدفعية وصواريخ روسية متطورة، وأنشأت غرف عمليات متقدمة كانت تضع في حساباتها ردّ فعل المعارضة.
واستفادت المليشيات من الغارات الجوية الروسية التي تصاعدت بالتزامن مع اشتداد المعارك وسعي المعارضة لفك الحصار عن مواقعها في حلب. ولم تتوقف المقاتلات الروسية عن ارتكاب المجازر بحق المدنيين وضرب المعارضة في الداخل الحلبي المحاصر والمحيط الغربي. وكان للتغطية الجوية الروسية الدور الكبير في افساح المجال للمليشيات كي تتنفس الصعداء بعد الضربات الأولى الموجعة التي تلقتها على يد المعارضة التي تطمح لتحقيق أكبر انجاز أرضي، في أقل وقت ممكن، لتفويت الفرصة على القوى المعادية في أن تلملم صفوفها وجهدها العسكري.
وجددت المعارضة المسلحة، المشاركة في غرفتي عمليات "جيش الفتح" و"فتح حلب"، هجماتها البرية، في المحاور ذاتها التي حققت فيها تقدماً مع بدء الهجوم مطلع آب/أغسطس، بهدف استعادة نقاط كانت قد خسرتها خلال اليومين الماضيين. والمحاور تقع بين بلدة الحويز جنوباً حتى مشارف الثكنات العسكرية الثلاث؛ "مدرسة المدفعية" و"الفنية الجوية" و"مدرسة التسليح"، وتتألف من منطقة الجمعيات والتلال المحيطة وبلدة العامرية وتلة المحروقات. كما عملت المعارضة على تثبيت نقاطها في محاور القتال العليا، في المشروع السكني في الحمدانية "1070 شقة" وجبهات محيط الأكاديمية العسكرية بالقرب من معمل الكرتون ومناشر منيان وجمعية الصحفيين.
ومهدت المعارضة لتقدمها واستعادة مواقعها بقصف مكثف، بالمدفعية والهاون وصواريخ "حمم"، وتمكنت خلال ساعتين من التمهيد الناري من كسر خطوط دفاع المليشيات المنشأة حديثاً. وسارعت مدرعات المعارضة في التقدم لإفساح المجال للكتائب الراجلة كي تمشط المناطق السكنية الريفية المبعثرة في العامرية ومنطقة الجمعيات والتلال القريبة منها، وبسطت سيطرتها بالفعل على المواقع المستهدفة، بينما لم تتمكن من استعادة تلة المحروقات التي تبدو مهمة نظراً لإشرافها المباشر على محطة المياه الفاصلة بين مواقع المعارضة وحي الشيخ سعيد الذي ينتظر فيه آلاف من مقاتلي المعارضة لفك الحصار عنهم.
مسؤول الإعلام العسكري في "حركة أحرار الشام الإسلامية" محمد يزيد، أكد لـ"المدن"، أن "جيش الفتح" تمكن من استعادة معظم المواقع في المحاور الجنوبية التي خسرها لحساب المليشيات في هجماتها المرتدة خلال الأيام القليلة الماضية، وماتزال المحاور الوسطى وفي محيط تلة المحروقات تشهد معارك عنيفة بين الطرفين.
وقتلت المعارضة وفق يزيد، ثلاثين عنصراً على الأقل من المليشيات العراقية واللبنانية والأفغانية، كما جُرح العشرات منهم خلال الاشتباك المباشر، والتمهيد والقصف المكثف الذي استأنفت به المعارضة هجومها.
كما شهد "مشروع 1070 شقة" السكني في حي الحمدانية قصفاً عنيفاً من قبل قوات النظام والمليشيات، بالمدفعية والصواريخ، بالتزامن مع محاولات متكررة لاستعادته بعدما سيطرت عليه المعارضة قبل أيام. وتمكنت المعارضة من التصدي للهجوم العنيف وكبدت المليشيات خسائر كبيرة. ويعتبر "مشروع 1070 شقة" من أكثر المواقع حساسية بالنسبة للنظام حيث يشرف على حي الحمدانية الكبير الذي يعتبر معقلاً مهماً للمليشيات وبوابة نحو أحياء حلب الغربية التي يسيطر عليها النظام بالكامل، وهذا ما يفسر الإصرار على استعادة المشروع من قبضة المعارضة.
وماتزال مشاركة فصائل المعارضة المتمركزة في أحياء حلب الشرقية المحاصرة رمزية، على غير المتوقع منها. فقد كان من المفترض أن تتزامن هجماتها مع المعارك التي تخوضها فصائل المعارضة غرباً، لتشتت جهد المليشيات العسكري الذي بات منصباً في كليته نحو الجبهات المفتوحة في محيط "كلية المدفعية" والمحاور العليا إلى الشمال، وإلى الجنوب منها في المحاور السفلى.
واقتصرت مشاركة الفصائل المُحاصرة على إشعال جبهات الشيخ سعيد والراموسة وحي العامرية، وتلك الجبهات مواجهة لمحور العمليات الخارجي، وحققت في واحدة منها فقط تقدماً بسيطاً في السيطرة على مجموعة من المبان والمحال والمنشآت في المنطقة الصناعية في الراموسة بعدما فجرت نفقاً تحت مقرات وثكنات تابعة للنظام والمليشيات. إلا أن فصائل حلب المُحاصرة ظلت تدافع طيلة الأيام الماضية عن مخيم حندرات في الضواحي الشمالية لحلب، بالقرب من دوار الجندول والشقيف والكاستللو، وتصدت الخميس لأعنف الهجمات واسترجعت بعض مواقعها هناك، بعدما حاولت مليشيات "لواء القدس" الفلسطيني و"لواء الباقر"، التقدم واشغال المعارضة للتخفيف عن المليشيات الحليفة لها، التي تتصدى غرباً لهجمات "جيش الفتح" و"فتح حلب".
من جانب آخر، أعلنت "مديرية الأوقاف الحرة" في حلب إلغاء صلاة الجمعة، خوفاً من استهداف الجوامع من قبل الطيران الحربي الروسي، ومروحي البراميل. وجاء ذلك على لسان مدير الأوقاف محمد الماز، الذي طلب من المواطنين عدم الخروج إلى الصلاة في الجوامع، والقيام بها في البيوت تجنباً لوقوع مجازر محتملة بسبب القصف الجوي.
في السياق، طلبت الهيئات الشرعية والمحاكم في ريف حلب الغربي من المدنيين عدم التوجه إلى صلاة الجمعة خوفاً من القصف الجوي الذي تصاعد بشكل ملحوظ. وشنّ الطيران الروسي أكثر من 150 غارة جوية، الخميس والجمعة، طالت جبهات المعارضة الأولى، في الجمعيات ومحيط "كلية المدفعية" والشرفة وبلدة العامرية. كما طال القصف الجوي بشكل عنيف أيضاً مدن وبلدات ريف حلب الغربي، في الأتارب ودارة عزة وكفرناها وسمعان وخان طومان والقراصي والزربة وجانبي الطريق الدولي حلب-دمشق جنوب غربي حلب.
واستهدف الطيران الروسي بعدد من الغارات الجوية بالقنابل العنقودية، مخيمين للنازحين في ريف الأتارب، قتل على إثرها خمسة مدنيين على الأقل وجرح عشرون آخرون بينهم أطفال ونساء، واحترق عدد كبير من الخيام.
وكانت حصة الأحياء المحاصرة في حلب من القصف الجوي، هي الأكبر خلال الساعات الماضية، حيث شنّ الطيران الحربي والمروحي عشرات الغارات التي استهدفت أحياء الأنصاري والعامرية والسكري وتل الزرازير والمشهد وصلاح الدين وسيف الدولة والمرجة والصالحين وبستان القصر والشعار وحلب القديمة والفردوس والكلاسة. وقتلت الغارات الروسية أكثر من 35 مدنياً في حلب المحاصرة، الخميس والجمعة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها