بشار برهوم: شكراً إيران..مع السلامة

عمر قدور
السبت   2024/05/11

قبل يومين تم تأكيد خبر اعتقال بشار برهوم الذي يوصف عادة بأنه ناشط موالٍ للأسد. لم يُكشف بعد عن الجهة التي اعتقلته، وهذا معتاد لأن مخابرات الأسد لا تعرّف عن نفسها أثناء عمليات الاعتقال ولا تفصح عن أسماء المعتقلين لديها. لكن هذه المرة أضيفت شبهة أن يكون برهوم قد اعتُقل من جهة إيرانية، بما أن تغييبه تم على خلفية مهاجمته إيران بشراسة في برنامج على قناة "المشهد" نهاية الشهر الفائت، استضافه فيه الإعلامي طوني خليفة، بعد مهاجمته إيران بتسجيلات لاقت رواجاً على وسائل التواصل الاجتماعي.

يجوز وصف أقوال برهوم في ذلك اللقاء بأنها صادمة لمجيئها من موالٍ أكّد في الحوار نفسه على موقعه الموالي، وأكّد في الوقت نفسه على أنه يمثّل نبض الشارع الذي قال أنه "من أقصاه لأقصاه ضد الفرس"، ويرى "المشروع الصفوي أخطر ألف مرة من المشروع الصهيوني". بل أقسمَ بالله العظيم، وكررها مؤكِّداً: "لا يوجد سوري من مشارق سوريا إلى مغاربها، لا علوي ولا سني ولا شيعي ولا درزي ولا كردي ولا تركماني ولا شركسي، يطيق إيران، حتى اللي بيشتغلوا معها ما بيطيقوها".

أبعد من ذلك، قال عن الإيرانيين: "الثورة السورية.. كرهونا هالثورة.. لكن في الحقيقة هي ثورة حقيقية وتمثّل كل الشارع السوري.. 15/3/2011 اللي طلعوا في درعا يمثّلون كل الشعب السوري.. أجا الإيراني وميليشياته هم الذين لعبوا بالبوصلة وحرفوا الثورة عن مسارها". ليضيف أن الميليشيات الإيرانية لم تأتِ بعد اندلاع الثورة كما هو شائع، بل هي موجودة في سوريا منذ عام 2006 من أجل المصالح الإيرانية التي يرى أنها انكشفت مع حرب غزة الحالية، حيث خيّبت طهران آمال الذين ظنّوا أنها على عداء مع إسرائيل.

في اليوم التالي، الأول من هذا الشهر، بثّ برهوم تسجيلاً توضيحياً قال فيه: "أنا ضد إيران للموت وهي العدو الأول، وتركيا هي العدو الثاني، وإسرائيل معتدية. أنا مع أي قوة في العالم تساعدني للخلاص من إيران، حتى لو كانت إسرائيل...". غاية التسجيل كانت توضيح قوله في الحوار مع طوني خليفة: "لم تسنح لي الفرصة كي أُشرَّف بأن أخبر إسرائيل عن مواقع إيرانية في سوريا". بعدما كان المذيع قد قال أنه سيسأله بخبث عن الأقاويل حول حصول إسرائيل على معلومات تخص المواقع الإيرانية في سوريا من سوريين. فردّ برهوم بأنه سيجيب بخبث أيضاً، وقال ما قال من أنه لم يحظَ بشرف التعامل مع إسرائيل ضد إيران واصفاً إيران بالعدوة وإسرائيل بالمعتدية.

بالطبع انصرف الانتباه إلى مقارنة برهوم إيران بإسرائيل، من دون انتباه إلى أنه أيضاً وضع تركيا في منزلة العدو الثاني بعد إيران. هذا الترتيب يصدر عن شخص لطالما وُصِف بـ"الناشط العلوي"، وهو يقفز فوق كل ما أشيع "خاصةً منذ اندلاع الثورة" عن القرابة المذهبية بين التشيع الإيراني والمذهب العلوي، والأهم أنه يتخطى المظلومية العلَوية المقترنة بتركيا من خلال ما يُنسب إلى العثمانيين من مذابح ضد العلويين.

كذّبَ اعتقال برهوم ما كان قد ذكره بنفسه لطوني خليفة الذي استغرب صدور كلامه من اللاذقية، وعن ناشط موالٍ، فقال حينئذ أن السقف العالي الذي يتحدث بموجبه دليلٌ على الديموقراطية ومساحة الحريات؛ مضيفاً أن أحداً من السلطة لم يعترض على هجومه على إيران. وهو، على نحو مباشر وغير مباشر، أراد الفصل بين إيران والأسد، لا من خلال تأكيده على ولائه للثاني فحسب، وإنما أيضاً من خلال تحميل إيران مسؤولية ما حدث في سوريا منذ 2011، وصولاً إلى قوله أنها وراء الغلاء الفاحش، لأن الإيرانيين بتعبيره "ما تركوا شي إلا وأخذوه". وربما يجوز القول أنه كان يقدّم رشوة بتبرئة الأسد من المسؤولية عن كل ما حدث وصولاً إلى التدهور المعيشي، إلا أن هذه الرشوة تبقى متواضعة بالقياس إلى فداحة ما يتهم به الحليف الإيراني.

بالتأكيد بالغَ برهوم بوصف نفسه ممثلاً لنبض الشارع، ومن المبالغة في المقابل وصفه بناطق غير مباشر باسم سلطة الأسد التي تريد التخلص من وطأة الحليف الإيراني، الوصف الذي راج إلى حد ما في أوساط معارضة. قد يكون الأقرب إلى الواقع أنه يمثّل حقاً تململ الشارع من الهيمنة الإيرانية الفاقعة في العديد من المفاصل العسكرية والاقتصادية، ويمثّل في الوقت نفسه تململاً مكبوتاً في أوساط السلطة من تلك الهيمنة، وأغلب الظن أن السلطة أكثر إدراكاً منه لفداحة التغلغل الإيراني ولعجزها حياله، وبما يكفي كي لا تدفع شخصاً مثله كي يقول ما تخشى قوله.

بتعبير آخر، يمثّل بشار برهوم أمنية لدى نسبة كبيرة من الشارع الذي يتحدث عنه ومن السلطة معاً، على اختلاف دوافعهما، الأمنية التي يمكن اختصارها بقول مستحيل هو: شكراً إيران.. مع السلامة. وسبقت لنا الإشارة إلى أن عدم إيفاء التغلغل الإيراني حقه كان وراء رواج التكهنات بين حين وآخر عن ابتعاد الأسد عن إيران، وكأنه قادر على اتخاذ قرار "استراتيجي" من هذا القبيل، أو أنه يملك من القوة ما يكفي ليشكر إيران مطالباً إياها وميليشياتها بالرحيل.

باعتقاله دفع برهوم ثمن تصوّره الساذج، ومن ضمن التصور الذي طرحه أن إيران موجودة من أجل مصالحها، وعلى الضد من مصالح السوريين. وهي خلاصة، على صحتها وشيوعها لدى المعارضين أيضاً، لا تقدّم أية فائدة لجهة استحقاق سداد عشرات مليارات الدولارات التي استدانها الأسد لتمويل حربه على الثائرين ضده، الديون التي حصل عليها بوصفه رئيساً لسوريا ويشغل مقعدها في الأمم المتحدة وما يتفرع عنها من منظمات دولية. أما على صعيد التحالف مع إيران فيجدر تذكُّر حادثة ذات مغزى شديد الأهمية، عندما ذهب زعيم حزب الله حسن نصرالله إلى القرداحة معزِّياً بموت حافظ الأسد، مصطحباً مجموعة من مقاتلي الحزب الذين أدّوا استعراضاً عسكرياً أمام الحضور في سابقة لم تُكرر لاحقاً في أي مكان. 

لمن لم يفهم الرسالة آنذاك فقد جرى تنفيذ وعيد الحزب بدءاً من 2011، ومن السذاجة الظن أن سيطرة إيران على العراق وسوريا ولبنان قوبلت أو تُقابل حالياً بإرادة مضادة جدية من القوى الدولية الفاعلة. ربما يستشعر شخص مثل برهوم الخلاصة الأخيرة، فيعوِّل على إسرائيل كي تقوم بالمهمة، وهكذا ينجو الأسد من وطأة الوجود العسكري الإيراني ومن سداد المليارات الإيرانية. وحدها الانتهازية السياسية الساذجة تتوخى الخلاص بهذه السهولة والبساطة عبر تناقضات الآخرين، أما الحكمة المعروفة "البسيطة أيضاً" فتقول أن لا أحد يقدّم الطعام مجاناً سوى الوالدين.