عالم ما بعد غزة.. في لبنان

شادي لويس
الأربعاء   2024/09/25
تبدو حسابات حزب الله مستندة إلى قواعد الماضي (Getty)

لعل من خططوا للسابع من أكتوبر (تشرين الأول 2023)، كانوا عازمين على أن يفعلوا شيئاً زلزالياً وصادماً، يهز العالم والنظام الإقليمي كما يهز إسرائيل. والغرض هو أن تعاد كتابة قواعد اللعبة التي أغلقت كل خاناتها، بالأخص بعد الاتفاقات الإبراهيمية وسلسلة القرارات التي اتخذتها إدارة ترامب والتي بدت المعنية بتصفية المسألة الفلسطينية. وبهذا المعنى، كان الطوفان مثل إلقاء ورقة أخيرة، في رهان شبه انتحاري. فيه تأرجحت الخيارات المحدودة جداً بين خسارة شاملة وكارثية أو البدء من جديد، والأغلب أن حماس عولت على الضغط الدولي والإقليمي على إسرائيل، وربما على انقسام داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، بفعل الخسائر البشرية المتوقعة جراء أي هجوم إسرائيلي، وكذا بفعل ورقة الرهائن. لكن لعل الطوفان، في جانبه العملياتي، كان ناجحاً أكثر من اللازم، وبشكل كارثي. بالفعل، تغيرت قواعد اللعبة بشكل جذري، لكن في الاتجاه المعاكس.

إسرائيلياً، تعيد الدولة العبرية كتابة تعاقدها مع مواطنيها بشكل غير مسبوق منذ تأسيسها. ويبدو أن المجتمع الإسرائيلي في مزاج جاهز للقبول بالبنود الجديدة. كان نتنياهو هو بنفسه، من وقف وراء صفقة شاليط في العام 2011 أو ما وصفه بـ"القرار الصعب"، أي مبادلة إسرائيلي واحد مقابل أكثر من ألف أسير فلسطيني، من بينهم السنوار. كانت السياقات مواتية لدفع الثمن الباهظ والاستعراضي، كونه مستنداً لرصيد إسرائيلي لا ينفد، وكونه يرسخ أسطورة تأسيس الدولة المنذورة لفعل كل شيء لإنقاذ حياة يهودي واحد، وبأي ثمن. ألوف المتظاهرين في شوارع تل أبيب، من أجل صفقة لإطلاق سراح الرهائن اليوم، ما زالوا يعيشون في الماضي، في عالم ما قبل السابع من أكتوبر. الحكومة الإسرائيلية من جانبها أعطت الضوء الأخضر لتنفيذ "بروتوكول هانيبال" على نطاق واسع، وبأثر رجعي، هكذا يكون الإسرائيلي الميت أفضل من الإسرائيلي الأسير.

بخس حياة الإسرائيلي في عين حكومته ليس خبراً ساراً لأحد. ليس فقط لأن حماس تخسر ورقتها الوحيدة، أي ورقة الرهائن، بل والأفدح لأن ذلك البخس لا يعوض سوى على حساب الفلسطينيين. سابقاً، وطبقاً لمعادلة الانتقام التي وضعتها تل أبيب كان الإسرائيلي الميت يساوى من 20 إلى 40 قتيلاً فلسطينياً. لكن وبعد أن تجاوز عدد القتلى في غزة أكثر من 50 ألف قتيل بحساب المفقودين، وما زال القتل مستمراً، يظهر أن إسرائيل عازمة على ضرب أرقام قياسية في رصيد قتلى حروبها، ليحسبوا بعشرات الألوف، وليقتربوا من عتبة المئة ألف الرهيبة.

في 12 من آب/أغسطس العام 1982، وعلى خلفية القصف الجوي الإسرائيلي الشرس لغرب بيروت أثناء حصار المدينة، هاتف رونالد ريغان رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها مناحم بيغن، ووبخه على القتل الواسع والعشوائي للمدنيين، أو ما وصفه غاضباً -حسب تقارير أميركية- بـ"الهولوكوست". بفضل تلك المكالمة والتلويح بعقوبات أميركية على تل أبيب، توقف القصف. وبعدها بأقل من أسبوع، وقعت الأطراف المتحاربة على اتفاقية لوقف القتال بوساطة أميركية. اليوم، وبعد ليلة واحدة من القصف الإسرائيلي على لبنان، خلفت 558 قتيلاً، تبدو إدارة واشنطن لامبالية بالمرة، باستثناء التلويح بالدعم لإسرائيل، متمثلاً في إبحار البوارج الأميركية في مياه الإقليم. أما التصريحات المستمرة لشهور بخصوص وساطة أميركية لوقف إطلاق النار، فاصبح مثاراً للسخرية أو في أفضل الأحوال تعويذة دبلوماسية معنية بتهدئة الاحتجاجات ضد الحرب في الداخل الأميركي.

في الحرب الشاملة الجارية في لبنان، تبدو حسابات حزب الله مستندة إلى قواعد الماضي. لكن القواعد تغيرت بالفعل. ببساطة فادحة، ما دام العالم قد طبّع مع قتل عشرات الألوف في غزة، والقبول بوتيرة المذابح اليومية هناك لأكثر من عام، فالأمر نفسه يمكن أن يحدث في لبنان.