"الفرشة" و"المخدّة" صارت طموحا: النازحون بلا سند

خضر حسان
الإثنين   2024/09/30
نازحون يكافحون لتأمين الحد الأدنى من مستلزمات العيش(علي علوش)
أجبَرَ التصعيد المفاجىء لعمليات العدوّ الإسرائيلي، بدءاً من يوم الإثنين 23 أيلول، أغلب الجنوبيين على الخروج من قراهم سريعاً. ولم يكن أمامهم متّسع من الوقت لتوضيب أغراض سوى تلك الضرورية جداً، خصوصاً ثياب الأطفال. وبقيَت مسألة الفِراش ثانوية مقارنة بالحاجة للخروج الفوري الآمن من دائرة النار التي فرضها العدوّ على القرى. فاصطدَمَ النازحون بالنقص الفادح في أعداد الفراش.

وتعاظمت الحاجة للفراش مع إجبار العدوّ سكّان الضاحية الجنوبية لبيروت، على الخروج سريعاً من بيوتهم بفعل سلسلة الغارات الهائلة التي أدّت إلى ارتكاب مجازر، انتهت باغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله. فافترشَ هؤلاء الأرض خارج الضاحية. أما الخروج من الشارع نحو منازل استُئجِرَت على عجلٍ، فزاد الحاجة إلى الفراش. ومع ضيق الأفق، بقيَ النازحون "على البلاط" وباتت "الفرشة" مطلباً يتقدَّم على الأكل والشرب.

نقص حاد والرهان على الوقت
معاينة بعض مراكز الإيواء والبيوت المُستأجرة، تُفضي إلى حقيقة أن الحاجة للفراش تتزايد. وفي ظل النقص، سواء بفعل زيادة الطلب أو بسبب التخزين ورفع الأسعار، باتت تنتشر في السوق فراش سماكتها نحو 5 سنتم، بالكاد تشكِّل فاصلاً بين جسم الإنسان وبلاط الأرض. ويضاف إلى ذلك، الجودة الرديئة للفراش المنتشر، حتى ذلك الذي بسماكة 10 سنتم، إذ تتقلّص سماكته بمجرّد الضغط عليه. وبعد نحو أسبوع من استعماله، تظهر التضاريس عليه بوضوح، فسطح الفرشة يتحوّل من مستوٍ إلى حُفَرٍ وخنادق.

بعد الخروج المفاجىء من الجنوب وما صحبه من ولادة للسوق السوداء للفراش، ولاحقاً الخروج من الضاحية، زادَ الطلب على الشقق السكنية بعد التخمة التي شهدتها مراكز الإيواء. ولأن كلفة الإيجارات حلَّقَت بعيداً، بات الخيار الأنسب هو استئجار شقق غير مفروشة، وانتظار "ما يمكن تأمينه مع الوقت"، بحسب ما يقوله أحد النازحين من بلدة عيترون. علماً أن هذا النازح كان قد خرج منذ سنة من عيترون باتجاه الضاحية، وأجبِرَ على الخروج مرة أخرى باتجاه مدينة صيدا، بعد تمكُّن أحد أصدقائه من تأمين منزل له، بلا أي أثاث.

محاولة تأمين الفراش لنحو 6 أفراد، مسألة ليست سهلة. تضاف صعوبتها إلى ضغط تأمين إيجار المنزل الفارغ بـ500 دولار. فالفرشة بسماكة 10 سنتم، وبجودة رديئة، وصل سعرها إلى نحو 25 دولاراً، أي أن على ربّ الأسرة دفع 150 دولاراً لشراء الفراش، فكانت المرحلة الثانية من الرحلة نحو إيجاد مَن يبيع الفراش، وهي المرحلة الأصعب. ولأن تأمين الفراش ليس يسيراً، اضطُرَّ ربّ الأسرة إلى اقتراض 3 فرشات استطاع صديقه جمعها من بيوت نازحين آخرين.

هي حالة تشبهها الكثير من الحالات الأخرى، ومن بينها ما هو أصعب. إذ اضطرَّت عائلة أخرى للقبول بأربع فرشات بسماكة 5 سنتم لكل واحدة. علماً أن ربّ هذه العائلة وَجَدَ فرشات بسماكة 2 سنتم بسعر 12 دولار للواحدة، ولم يوافق على شرائها، لأن قبولها يعني "القبول بالسرقة والاستغلال"، فكان الخيار هو "الرهان على الوقت لإيجاد البديل المناسب".

مخدّة وغطاء
تأمين الفرشة لا ينفصل على ضرورة تأمين مخدّة وغطاء، بعيداً عمّا إذا كان "شرشف" رقيق أو "حرام" شتويّ، سيّما وأننا على أبواب شهر تشرين الأول. هي رحلة أخرى أكثر صعوبة، لم تتمكّن العديد من العائلات من اجتيازها، فبقيَت بلا مخدات وأغطية.

مَن وَجَدَ منزلاً "قَطَعَ أكثر من نصف الرحلة"، على ما يُجمِع عليه نازحون وجدوا منازل ويكافحون لإيجاد مستلزمات العيش فيه. وفي المقابل، هناك مَن افتَرَشَ الطرقات، وتحديداً في بيروت، بعد ملحمة الخروج من الضاحية قسراً. ولهؤلاء حكاية أخرى، إذ "لا يستطيعون إيجاد منزل ولا نستطيع نحن كمنظات إغاثة إيجاد فرش وأغطية ومخدات مناسبة والكمية المطلوبة"، على حدّ تعبير أحد الموظفين في منظمة إغاثة دولية.

هذا الموظّف الذي فضَّلَ عدم الكشف عن اسمه تنفيذاً لتعليمات إدارة المنظّمة بعدم التصريح إلاّ بإجازة مسبقة، يؤكّد لـ"المدن" أن محاولات إغاثة الناس في الشوارع ومراكز الإيواء "تصبح أكثر تعقيداً في ظل النقص الحادّ في الفرش والأغطية والمخدات. وهذا الأمر يطرح التساؤلات حول الجهات المفترض بها سدّ هذا النقص".

غياب الحكومة والمنظمات الدولية
تتّجه الأنظار أولاً نحو الحكومة التي "لم تقم بواجبها تجاه النازحين منذ اليوم الأوّل للحرب قبل سنة. ولم تستفِق من نومها بعد تهجير الجنوبيين قبل أسبوع، ولا بعد انفجارات الضاحية وخروج أهلها على عجل. فمراكز الإيواء أصبحت مكتظّة ولم تلجأ الحكومة إلى اتخاذ قرار بفتح كل الأماكن التي يفترض فتحها من مقرّات وأبينة ومراكز وإدارات حكومية قادرة على استيعاب أعداد من النازحين، أو ملاعب ومراكز رياضية أو كنائس أو مساجد... هي حالة فوضى عارمة تعيشها الحكومة وتجعلها في غربة عن واجبها".

ولا يقتنع الموظّف بعدم قدرة الحكومة على العمل أو بعدم توفُّر الأموال، لأنه "في هذا الظرف الصعب، على الدولة توجيه كل ليرة موجودة في خزانتها نحو النازحين لتأمين احتياجاتهم". وبالتوازي، يضع الموظّف جزءاً من المسؤولية على المنظمات الدولية التي "سارعت في حرب تموز 2006 لتقديم المساعدات المالية والعينية للنازحين، في حين أنها غابت اليوم بشكل شبه تام. وتقتصر المساعدات على المبادرات الفردية التي يدفعها المغتربون بشكل أساسي، وهي مساعدات غير قادرة على تأمين كل الاحتياجات". ويستنكر الموظّف "دمج السياسة بالإغاثة، في حين أنه يفترض بالخلاف في الشقّ الأول أن يبقى بعيداً عن ضرورة تأمين الشقّ الثاني لاعتبارات إنسانية بحتة لا علاقة لها بالانقسامات السياسية إقليمياً ودولياً. ومن المؤسِف أن تستمر عزلة لبنان سياسياً في حين يمكن لمعمل أو معملين في دولة كبرى أن تؤمِّن حاجة لبنان كلّه من الفرش والمخدّات والأغطية".

بين النوم على العشب والباطون والإسفلت أو البلاط تحت سقف منزلٍ فارغ واقتراض فرشة ومستلزمات أخرى، تختمر الأزمة وتنذر بالانفجار في حال طال أمد الحرب الإسرائيلية على لبنان. فالعدوّ يُلوِّح بحصار لبنان، ما يسمح لتجّار الأزمات بتوسيع تجارتهم، الأمر الذي يخنق النازحين، ويُنذِر بتعاظم نتائج الحرب.