ميلاد لقمان سليم

ناجي سعيد
الخميس   2024/07/25
ميلاد لقمان
مَن يبحث عن المعنى يجد أن اسم "لقمان" مشتقٌ من لقَم، أو كما ورد في المعاجم الرجل كثير اللقم. لكنّ من كسر هذا الموروث عبر التاريخ هو "لقمان الحكيم" وهو من قوم "عاد"، وكان في طليعة المعمّرين في العالم بعد الخضر، وقد حدد المفسرون والمؤرخون عمره بـ560 سنة، وزاد بعضهم عمره على ذلك، وذكروا أنه طلب من ربه أن يعمر طويلًا، فأعطاه طلبه، وقد ورد ذكره في القرآن ﴿ولقد آتينا لقمان الحكمة﴾ [لقمان من الآية 12] ولهذا عرف بالحكيم.

ومن الشائع في الثقافة الشعبية، بأن لكلّ امرئٍ من اسمه نصيباً. فينعكس على حامل الاسم الطريقة التي ينادونه بها. وقد كانت الحكمة ما أوصى بها الخالق في كتابه المُنزل. ولكن، ما الذي بقي من هذه الحكمة؟ لا بل إلى ماذا تحوّلت؟ كانت نسبة الأعمار طويلة في ذلك الزمان، مقارنةً مع زمن التكنولوجيا الآن. فلو كان لقمان الحكيم في طليعة المعمّرين عمريّاً، فلقمان سليم هو في طليعة المعمّرين ثقافيًّا.

لستُ مُخوّلاً للحديث عن لقمان سليم، وقد لا أعرف عنه الكثير، لكنّ الجزء الذي يعنيني هو اللقاء به للمرّة الأولى في التسعينات، حيث كان صديقي يعمل معه في دار نشر، تعرّفت به، وبالطبع فإنّ ولعي بالقراءة واحترامي لكل من يقرأ، جعلني أهتمّ وأتابع منشورات "دار الجديد". ولم نكن مراهقين عندما "خربشنا" كمجموعة طلاب من كلّيتي الفنون والإعلام. فقد حوّلنا اعتراضنا على حياة سياسية، اجتماعية، فكرية، وفنيّة، إلى نشرة (ورقيّة وعمل يدوي) سميّناها "خربشة" وقد كانت غير دورية (ومسلوقة سلق). هذه اللغة ومفرداتها، كان قد شجّعنا عليها لقمان المُثقّف حينها وحتى النهاية.

أشعر بحزنٍ شديد على إقدام سلاح أرعن بإنهاء مسار ثقافي طامح. لم أسمع لقمان يومًا يقول بأنه لاعنفي، لكنّي أجزم بذلك، فالكتاب هو لغة لاعنفيّة تربط الحضارات الإنسانية وتحافظ على ديمومتها. لا أوافق ما سمعته من الفنان زياد الرحباني، في حلقة إذاعيّة كانت ردًّا على اغتيال أحد السياسيين المعارضين في الثمانينات: "الّلي بيضربك كفّ، ضربه كف، ما تردّ عليه ببيان بالجريدة، ما هوّ أصلاً ما بيقرا الجريدة". وأنا أعلم تمامًا أنّ من يقرأ حرفًا، كأنه يرمي حجرًا في حفرة الظلام والجهل، ليطمرها. ومن كلاسيكيات المقولات من أيام المدرسة، ما قاله ميخائيل نعيمة: "فكري ضيّق ما دام لا يتّسع لأي فكرٍ آخر".

وُلد لقمان سليم في 17 تمّوز 1962، ولم تكن عاديةً التفاتة "أمم" التي أسّسها الرجل، ففي ذكرى ميلاده، نظّمت "أمم" ندوة بعنوان "العدالة للبنان"- القضاء اللبناني في مهبّ الريح. واستنادًا لمعرفتي بلقمان، أكاد أجزم بموافقته بشدّة -رغم غيابه- على هذا النوع من الاحتفالات. فهو لا يسعى "للبهورة"، ولم يكن ذلك احتفالاً، لميلاد أو غياب شخصٍ محبوب، لا بل لترسيخ فلسفة لقمان بالقراءة واستمرارية المعرفة.

بدأ النشاط بندوة تحدّث فيها قانونيّون وخبراء في التعامل مع العدالة في لبنان، وقد عبّرت المداخلات عن قصور وتخاذل القضاء اللبناني أمام القضايا المُحقّة. وكما وردَ في كلمة شقيقة لقمان، رشا الأمير (مديرة دار الجديد): ".. بعد اغتيالِ الرئيسِ رفيق الحريري العام 2005، مُنِحَ لبنانُ الدولةُ فرصةَ محكمةٍ دَوليّةٍ خاصّة، بَذَلَتْ وُسْعَها، رُغْمَ كلِّ ما مُورسَ عليها من تلاعبٍ وترهيبٍ، في أن تصِلَ إلى نتيجةٍ ولو متواضِعَة. وصَلتِ المحكمةُ بالحجّة والقرينة إلى تحديد أسماء القَتَلةِ، بَيْدَ أنّ حامِيَهُم يستمرّ في الطعن بمصداقيّتها".. وقد أجمعت المداخلات على الخلل الموجود في القضاء، ورغم معارضتي على تحميل ضياع العدالة حصرًا بغياب قانون..، فبرأيي القانون موجود، ولكنّ إحكام السيطرة عليها ووضعه في قالب طائفي، يرفع حدّة خرق القانون بحسب المصلحة الفئوية والطائفية. من منّا لا يعرف ابن رشد وقصّته التي جُسّدت في فيلم "المصير" (ليوسف شاهين). يُظهر الفيلم أن السيطرة على أي دولة تتحقّق تمامًا من خلال الإحكام على "القضاء" فيها. وقد ذهب أعمق من ذلك (في الفيلم) بأنّ السيطرة على القضاء لا يتمّ إلاّ من خلال تجييش الناس عبر منابر المساجد. وما حاول لقمان نقله للعالم يطابق تمامًا ما فعله ابن رشد، فكما حرِصَ ابن رشد على نسخ الكتب الفلسفية ونقلها للأجيال، حرصَ لقمان بعد دار الجديد على تأسيس "أُمم" وهو مركز للتوثيق والأبحاث. ولا أعلم كيف تنشأ معارضة (تلقائيّة) من بحيرة دينيّة لمواجهة أي مشروع ثقافي منسوب لجهة عارضت جهة.. مسيطرة؟ حين لاحظ "الشيخ" (فيلم المصير) كيف أنّ تلامذة ابن رشد يتزايد وعيهم وأدمغتهم تتفتّح، فَتَلاعب بعقل الخليفة "أبو جعفر المنصور" وجنّد ابنه الأصغر عبدالله وحرّضه على قتل ابيه لاستلام العرش مكانه. يمكنني القول بأنّ المعارضة تنبع من حقّ الاختلاف. وهنا تبدأ الإشكاليّة، هناك معايير تُفرض على وجود المختلف؟ في الدول المتقدّمة تُعتبر "المواطنة" هي السقف الذي ينضوي تحته أي حامل لجنسيّة الدولة. في الدول "غير المُتقدّمة" وأقصد بهذا المصطلح: غياب السيادة واستقلالية القرار ووجود سلاح خارج إطار السلطة المُنتخبة من الشعب (ولو بالإجبار)، وولاء مكوّنات الدولة لدُول خارجيّة. وهذا يكفي لقتل من كان يرفع صوته في كلّ مكان، ليقول ذلك. لا أودّ بذل جهد في التفكير والبحث عن القاتل، فمن أحد أهداف القاتل إشغال الرأي العام بقضيّة يلوكونها ويتشدّقون بها لتبادل التهم وتوسيع دائرة "نحن وهم". لا أحد يهتمّ بقراءة كتاب، فالكتاب يفتح مساحات مُغلقة في الدماغ، والقاتل يريد أدمغة مُغلقة، وتتبع سلاحًا أعمى.. الكتاب يبني وطناً".

الرحلة التي بدأ بها لقمان بين صفحات الكتب لمن تنته. فكتب وقرأ وترجم... ولم تتوقف رحلته عند اغتياله، بل ترك وراءه أثرًا من الصعب أن يُقتل. فقد كانت الدعوة للّقاء في ذكرى ميلاده تليق بما بدأه. وبعد الندوة والنقاش حول العدالة والقضاء اللبناني كان توزيع الكتب، "الإرث الكبير"، من دار الجديد على الحضور، وجلّهم من المثقفين الذي يقرأون بشكل جدّي.

تلك هي الصخرة التي كان لقمان يحاول تشكيلها للمحاولة في وضع حجرٍ أساس لوطنٍ صار أشبه بلعبة "البازل" المُشتّتة القِطع، وكلّ قطعة تفرض زواياها وانحناءات شكلها على القطع الأخرى. وكما قال يوسف شاهين في الفيلم المذكور، ردًّا على حرق كتبه: "الأفكار لها أجنحة ما حدّش يمنعها توصل للناس". ومن أهمّ الكتب التي ترجمها لقمان عن الفرنسية كتاب "توقيعات" لإيميل سيوران، الكاتب الروماني الذي هجر الرومانية إلى الفرنسيّة، ومن هذا أقول: "لَيْسَتْ البُقْيَا عَلَى قِرَاءَةِ كِتَابٍ مُدَمِّرٍ أَهْوَنَ عَلَى قَارِئِهِ مِنْهُ عَلَى المُؤَلِّفِ" (سيوارن)
وعند اغتيال لقمان دُفن في حديقة منزل العائلة، كأنّه طبّق ما ترجمه من قول سيوران:
"أَليَقُ بِالمَرءِ أَلاَّ يُزْعِجَ أَصْدِقَاءَهُ إِلاَّ بِمُنَاسَبَةِ دَفنِهِ. وَحَتَّى!".