مندوب الليل: "باراسيت" سعودي

شادي لويس
السبت   2024/09/07
ثمة غضب مكتوم، وثمة عزلة تغلف جولات فهد الليلية
نادراً ما تحظي الأفلام العربية بعروض تجارية في دور السينما في بريطانيا، لكن لعل الفضول نحو السعودية الجديدة وصناعتها السينمائية الصاعدة كان واحداً من الأسباب وراء عرض فيلم "مندوب الليل" (2023) من إخراج السعودي علي الكلثمي، في سلاسل دور السينما البريطانية مطلع هذا الشهر. الفيلم الذي تصدر الإيرادات أثناء عرضه في قاعات السينما السعودية العام الماضي، يفي بوعوده للمتفرجين الراغبين في اختلاس النظر إلى التغيرات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة في البلاد. بعيون فهد، مندوب توصيل الوجبات، نرى مدينة الرياض من أسفل، وفي حيواتها الليلية المتقاطعة والمتباعدة جداً في آن.

في المشهد الأول، يفقد فهد عمله في مركز الاتصالات، بعد أن يُضبط متلبساً بإساءة معاملة واحدة من العميلات. محاولته للتخفيف من شأن مخالفته تصطدم بتقنيات المراقبة والضبط في الـ"كول سنتر"، فمكالماته مسجلة وزمن الرد على الهاتف محسوب بالثانية وكل شيء خاضع لتقارير من قسم "الآي تي". فهد غير القادر على استيعاب قواعد سلوك الرأسمالية الشركاتية، يواجه محاولة إجباره على الاستقالة بالعنف، ويهاجم مديره بطفاية الحريق. هكذا يتحول توصيل الطلبات عبر تطبيق "مندوبك"، من وظيفة إضافية، إلى عمل أساسي يعتمد عليه فهد المسؤول عن تكاليف علاج والده المريض وإعالة أخت مطلّقة وابنتها.


تتجول الكاميرا في ليل الرياض، البطل الرئيسي للفيلم، لتستكشف عدسة مدير التصوير أحمد طاحون، جماليات الظلمة في شوارع العاصمة السعودية وتقاطعات أضوائها الليلية البراقة مع عمارة المدينة، متنقلاً بين فنادقها المتلألئة ومراكزها التجارية وأبراجها هائلة الحجم وبين أحيائها المتواضعة المطفأة. في أحد المشاهد المحتشدة والمُشبِعة للعين، نرى طريقاً مزدحماً بأضواء سياراته المشتعلة كحريق يتحرّك ببطء إلى الأمام وسط الظلام المطبق، أو مثل نهر من الحمم البركانية يتوهج في فراغ أسود، كل هذا نراقبه من بعيد ويطبق عليه صمت كامل.

ثمة غضب مكتوم، وثمة عزلة تغلف جولات فهد الليلية، ويتضاعف شعوره بالاغتراب وسط التغيرات التي تتسارع من حوله، الفوارق الطبقية الهائلة، حفلات النوادي الليلية، والاختلاط بين الجنسين، ومسابقات تلفزيون الواقع، واللغة المطعمة بالإنكليزية التي تستخدمها زميلته السابقة وأصدقاؤها. ومثلما يعجز عن التأقلم في عالم العمل، يفشل الشاب الخجول وسريع الغضب في تفهم شكل العلاقات الجديدة بين الجنسين.

من هامش المجتمع، وبلا أفق للمستقبل، يتهاوى فهد سريعاً إلى القاع، وذلك بعد تورطه في سرقة عصابة تدير شبكة لتصنيع الخمور غير المرخصة وتوزيعها. العالم الليلي والإيقاع المتوتر والمتسارع للفيلم يستدعي إلى الذهن الفيلم الأميركي "المتسلل الليلي" (2014) لدان غيلروي، ومن ناحية النقد الاجتماعي للرأسمالية ثمة عناصر مشتركة مع الفيلم الكوري "باراسيت" (2019)، وعن قصد أو من دون قصد، يذكرنا أسلوب الكلثمي بمخرجي واقعية الثمانينات العربية، وبالأخص مدرستها المصرية.

اللافت في "مندوب الليل"، هو الطريقة التي تعامل بها صنّاعه مع لهجته الاحتجاجية وترويضها ذاتياً. فالنقد اللاذع والصريح للبنية الطبقية وتفاوتها في المجتمع السعودي، تم تخفيفه بفردنة مأساة فهد، وتصويرها كمشكلة تأقلم تتعلق بشخصيته. أما مشكلات الأب المريض والأخت المطلّقة، فتم استيعابها داخل مؤسسات الدولة وبنية السلطة التقليدية القائمة. تجد الأخت دعماً مالياً لمشروعها من هيئة الأسر المنتجة، أما الأب فيحصل على قرار بالسفر للعلاج في الخارج. حتى أزمات فهد نفسه، فكانت في سبيلها إلى الحل من خلال القنوات العرفية في المجتمع السعودي، تلك المتعايشة جنباً إلى جنب مع قواعد الرأسمالية وبيروقراطية الدولة الحديثة. لكن ما حال دون ذلك، هو تورطه في العالم السفلي للخروج على القانون.

في النهاية، يعيد المشهد الأخير تمرير المحتوي النقدي عبر الصورة، والكاميرا تتجوّل بين ركاب حافلة ليلية، وتتأمل ببطء وحسرة وجوه وأجساد العمال المهاجرين، المنهكة والمحرومة من النوم.