هل بقي للسوريين ما يستحق أن يُحكى؟

علي سفر
الجمعة   2024/09/13
مدارس
يتراءى لمتابعي الشأن السوري، أن مثقفي وكُتاب هذا البلد، قد دونوا كل شيء عن كوارثه، خلال 14 سنة من الثورة ضد النظام المتسبب بها. في هذا الظن بعض من الحقيقة، إذ أن البؤر الكبرى في المناخ الاستبدادي، المحرضة لأصحاب القلم، ليست كثيرة، بل هي محدودة حقاً، بسبب الحدود المغلقة في كل الفضاءات. 
 
إذ لا يصلح الشأن العام أن يكون مادة كتابية، وذلك بسبب الخوف من مواجهة النظام القمعي، كما أن الكتابة من خلال التجربة الشخصية، دون مماحكتها مع ما حولها، سيجعلها غارقة في الذاتية غير اللافتة. 

وبالقياس الطردي، فإن حبس يوميات السوريين في قضايا الحيز الضيق، يؤدي حكماً لأن تكون ذخيرة التدوين محدودة أيضاً. وعليه فإن التقاط اللحظة، وهو فعل يتمتع بالقدرة عليه كتاب كثيرون لحسن الحظ، خلق فضاءً مختلفاً بعد العام 2011، وأدى إلى ظهور مادة مهمة للكتّاب المعروفين، ودفع بغيرهم لأن يوسع لنفسه مساحة خاصة في المشهد الثقافي. 

العلاقة بين الأحداث العظيمة وبين ثراء الثقافة والأدب تبدو منطقية حتى الآن، لكن ما هو غير ذلك، يتأتى من أن الزوادة الأساسية أي خامات الثيمات، ولائحة المواضيع الصالحة للمقاربة الإبداعية، ظلت معدودة، بأثر الديكتاتورية في حياة الإنسان، وسط عالم متحرك، لم يعد يقبله، إن لم تتوافر لديه حواس الحريات النشطة، وحبل سرة يصله مع العالم، بحيث يجد المرء نفسه وسط التحولات، والاختلافات، وارتفاعات مناسيب التجارب الإنسانية حول المعمورة.

نعم، ثمة تكرار في الحديث عن السجون كمثال حاضر، وتجارب من خاضوا فيها، حتى يخال القارئ أن النوع المسمى بأدب السجون هو نتاج سوري خالص! كما أن الأدب الخاص بالثورة، وهو ما يتبلور ببطء، طيلة السنوات الماضية، بات حاضراً، لا سيما أن البلد كلها عاشت فوضى شاملة، تقسمت تفاصيلها على كل متر من مساحتها. لكن ليس كل ما يكتبه هؤلاء، يمكن تصنيفه ضمن فضاءات الآداب المتنوعة، بل هناك كتابة ساردة، يهيمن عليها إحساس عال لدى أصحابها، بأن ما جرى معهم، إنما هو وثيقتهم الشخصية، عن الزمن الذي عاشوه، الأمر الذي يبرز حاجة ماسة للتدوين. فكل فرد في المجتمعات المبعثرة، في سوريا الداخل والخارج، لديه ما يجد فيه مادة مثيرة، تصلح لأن يسردها، أي كتابتها ووضعها أمام القارئ أو المستمع أو المشاهد، وهذا ما أتاحت حدوثه إمكانات النشر المتصاعدة، إن كان عبر التدوين السريع، في فايسبوك، وإكس، أو عبر المدونات، أو من خلال شبكات التواصل المرئية، مثل يوتيوب، وتيك توك، أو البودكاست المرئي/المسموع.


المقاربة التي يجريها صاحب المحتوى، حول ما يجب أن يقوله، أو يحكي عنه، خصوصاً إن وضعت في معايير التسويق وجذب المتلقين، يقوده للبحث عن الجديد، لكنه يجد نفسه غير مضطر لاختراع شيء جديد، بل ربما تكمن الإثارة في ما يمتلكه بالأصل، أي حياته ومفترقاتها. 

ورغم أن هذا لا يؤدي للخروج عن الثيمات النشطة في المشهد السوري العام، إلا أنه يخلق نوعاً من التفعيل لثيمات جزئية، وفي هذا المسار يمكن اعتبار الحديث عن زمن الطفولة، طفولة أي شخص، مادة مثيرة لأنها تقود المتلقي للمتابعة والبحث عن التقاطعات الممكنة بينه وبين صاحب التجربة. 

وبناء على هذا، يمكن الالتفات باهتمام كبير، إلى المحاولات التي خيضت في هذا المجال، وخصوصاً تلك التي دققت في الحيز التربوي الذي عاشه السوريون، منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة وتشكيله للمنظمات الشعبية الرديفة لحزب البعث، كمنظمة الطلائع، وشبيبة الثورة، وهما المنظمتان المسؤولتان عن تكوين الطفل، في المجتمع الاشتراكي المفصل على مقاس النظام. 
 
الكاتب أمير ناشر النعم، في كتابه "جورة الهم، سوريا في زمن الأسد" (دار ميسلون للثقافة 2024) التفت إلى التعليم والمدرسة من خلال هذه العدسة المكبرة، فحدّث القارئ بلغة أنيقة، عن عبارة "المُعلم" التي صارت "المْعلم" بتسكين الميم، قرينة المتحكم صاحب السلطة، وعاد وقت كان فيه "رفيقاً طليعياً" في الفصل المعنون بـ"الدركة الثالثة"، حيث تتجاور في عقل الطفل الصغير الذي كان، صور المذابح التي ارتكبتها القوات الخاصة في حلب، نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وصور الجموع التي تُقاد بالإرغام إلى مسيرات التأييد للمعلم الأول قائد التشرينَين، القائد المفدى.. إلخ.

وفي المسعى ذاته يقدم غيث حمور في كتابه "فولار وعصا غليظة، يوميات طالب في عصر القيود" (دار خطوة 2024) تدويناً حثيثاً، عما جرى معه في طفولته، التي قضاها في مدارس مدينة دمشق، واحتكاكه مع طلاب آخرين، في بيئات منقسمة تبعاً لعلاقة عائلاتهم مع النظام. أهمية هذا التدوين المستعجل، تأتي من أنه يؤرخ للكارثة التي صنعها الأسديون من خلال عقل طفلٍ صار رجلاً، يحاكم التفاصيل ويدرك كيف تشكلت في مسارات ذهنه أفعال الديكتاتورية، والمؤديات التي كانت تذهب صوبها، وحدث أن وصلت إلى غاياتها، حيث أنتج النظام شرائح من البشر، مغيبة العقل، منفصلة عن الواقع، استخدمها في مواجهة الثائرين عليه. أي أنه راهن عليها، ونجح في ما فعل. فما زال حاضراً ولافتاً للانتباه، السؤالُ عن آليات تشكل وعي المؤيدين، وشراستهم في الدفاع عن بشار الأسد، رغم كونهم لا يتمتعون بامتيازات السلطة.
العودة للطفولة في المدرسة، وحتى نهاية المرحلة الثانوية، عتبة جاذبة في فضاء التدوين السوري الراهن، ويبدو أن تجارب أخرى تتحفز لتسطير ذاتها، وبما يجيب على السؤال الذي طرحناه منذ البداية... نعم هناك الكثير مما يمكن الحديث عنه، عند السوريين، بعد 14 سنة من الغضب والشغب.