كارلا شمعون وجلباب انستغرام وتقليد فيروز

محمد حجيري
الجمعة   2024/09/13
البعض لا ينتبه إلى أنّ كارلا هي التي وضعت نفسها في موضع المقارنة، في جلباب التقليد
في زمن غابر، كانت صناعة المطربين والمطربات تحتاج جهوداً جبارة وصعبة، عدا قدرات المطرب (أو المطربة) الصوتية وموهبته، يكون إلى جانبه رهط من الداعمين والشعراء والملحنين والعازفين والموزعين والمنتجين والمستشارين والصحافيين. ينطلق المطرب من الإنشاد الديني أو التجويد أو التراتيل، يشارك في الحفلات والأعراس والمناسبات، "يطاحش" ويوظّف صفحات المجلات الفنية لتسويق نفسه، يتعب ويكدّ وينسج علاقات قوية. كان بعض الفنانين أبناء دول أو مؤسسات أو إيديولوجيات أو مجتمعات وعصبيات ساهمت في بروزهم وتحولهم رموزاً قومية...



لنقُل أنّ فيروز كانتْ ابنة النظام اللبناني ولسان حاله وإحدى ركائز إيديولوجيته ومهرجاناته السنوية، وأم كلثوم حليفة النظام الناصري وسند مجهوده الحربي وصرحه الخيالي، وكذا عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وأسمهان.

أفرزت الأيام والتحولات وسائط تساعد على الظهور والأضواء والانتشار، أنتجتْ أنماطاً جديدة من المطربين، وكان للأسطوانة والميكروفون دورهما ثم للكاسيت. في مرحلة في لبنان مثلاً، صار للبرامج التلفزيونية وسيمون أسمر دورهما واحتكارهما بعد موجة الإذاعة واحتكارها، ثمّ أتت موجة الغناء بالجسد والكليبات والفنان الشاب المحاط بعارضات الأزياء، وأغنيات "الميكسر" و"تلفزيون الواقع" الذي صنع نجوم الموسم من خلال التصويت وهوس المراهقين. لكن قلّة من نجوم تلفزيون الواقع بقيتْ. حصد هؤلاء (كما مطربات الجسد) الشهرة بسهولة، لكنهم لم يستطيعوا تقديم ما يجعلهم صامدين. ثم أتى زمن فايسبوك وانستغرام ويوتيوب، فصرنا أمام ظواهر جديدة "تريندات". أصوات تصعد في ساعات وتهبط في ساعات، ويصعب فهم صعودها وهبوطها. ربما هي جزء من الكيتش، ربما الثرثرة والقيل والقال، ربّما جزء من "الحداثة السيالة"، ربّما هي تعويض عن فقدان الأشياء وتلاشيها.


مُراد هذا الكلام ومبرّره وفحواه، الصعود الافتراضي المفاجئ للمغنية كارلا شمعون. لم تقدّم كارلا شيئاً خاصاً، ولم تقدّم عملاً إبداعياً جديداً، هي ناشطة في يوتيوب وانستغرام، قيل إنها كانت في مجال الصحافة قبل أن تنتقل الى الطرب، غنّت مع فرق عالمية وشاركت في حفلات ومهرجانات وقدّمت تراتيل دينية وأغنيات خاصة، لكنعا أصبحت حديث الناس والتريند بعد تقديمها أغنية أو اغنيات لفيروز. قارن الفسابكة والانستغراميون طويلاً بينها وبين فيروز، قالوا إنها "مهضومة" وليست سيئة، قالوا إنها "بالعة فيروز". بالطبع لا يقبل كثرٌ من الغلاة أي مقارنة بصوت فيروز "المقدّس" و"الملائكي"، وكثرٌ يغالون في مدح صوت كارلا الأوبرالي الشجي النقي.


يفيض الكلام عن المطربة الجديدة مثل كل شيء في عالم السوشال ميديا. يثني البعض على صوت كارلا، لكنه يرى مقارنته بصوت فيروز إجحافاً، من منطلق أنّ لكل صوت شخصيته وتمايزته. لكن هذا البعض لا ينتبه إلى أنّ كارلا هي التي وضعت نفسها في موضع المقارنة، في جلباب التقليد، ليس مع فيروز فحسب، بل أيضاً أم كلثوم وداليدا وشاكيرا... قدمتْ أغاني فيروز أكثر من مرة وعن سابق وتصوّر وتصميم، لا بالصدفة ولا في لحظة عابرة. اختارت لنفسها أن تكون مطربة المرآب أو مواقف السيارات. سمعت صدى صوتها، وكانت تستعرض قدراته في أغنية فيروز، من دون شخصية الأغنية والأحساسيس التي استندت إليها. تغني كما لو أن كل الأغنيات أغنية واحدة، بحزنها وفرحها، ربما لأنها كانت مأخوذة باللحظة، بقرار الغناء أمام الكاميرا.


تذكرنا كارلا شمعون بموجات الفنانين المقلّدين، وإن كانت صاحبة صوت، يمجده البعض في زمن الخواء والركام، وإن كانت تستعرض صوتها من خلال أداء أغاني الآخرين. لم يصمد معظم المقلّدين، أخذوا أنفسهم ومسيرتهم إلى طريق مسدود ومقفل. لنقُل أنّ كثراً قلدوا جورج وسوف في زمن صار صوته خشناً ومنهكاً، وعشرات حاولوا تقليد أم كلثوم وفيروز وعبد الحليم وعبد الوهاب، من منى مرعشلي الى أحمد دوغان وجورج الراسي، استسلهوا الوصول إلى الجمهور من خلال أغانٍ حاضرة في الوجدان والذاكرة، لكنهم سرعان ما غادروا الميدان والمسرح والساحة وحتى انستغرام. ذكرونا أن العالم يتغير، يتبدل، يتخلخل.

أصبحت كارلا شمعون "ترينداً" بعد غنائها "قديش كان في ناس" ونطرت مواعيد الأرض في الكاراج وبين الحيطان، في حين بات معلوماً أن أهل الفن صاروا يخشون الذكاء الصناعي، الذي يجعل الموسيقى والأغاني في مكان آخر وكوكب آخر، لا يحتاج الى أشخاص ووجوه، لا يقدم الثقافة السائلة فحسب، بل الثقافة البخارية الضبابية. يعطينا "يا مسهرني" بنكهة "بوس الواو"، و"نسم علينا الهوا" برائحة "الواوا أح".