ترنيمة لهدهدة الناجين

يعرب العيسى
الخميس   2024/09/05
"حطام سفينة" للرسام جوزيف مالورد وليام تورنر
هل أستطيع تعريف النجاة بأنها الطريق الطبيعي الذي نسلكه كي نصلَ لموتنا سالمين؟ 
أستطيع طبعاً. فقول ما نشاء، من دون اكتراث لقوانين الطبيعة ومتانة المنطق، ثم تعريف الأشياء بأول ما يخطر لنا، هو أفضل ترنيمة مجرَّبة لهدهدتنا في ذاك الطريق الموحش نحو النوم النهائي. ولا بد لترنيمة ناجحة كهذه أن تحتوي كثيراً على كلمة: "نجوت" كلازمة تبدأ بها كل المقاطع. 

ولديّ هذه المرّة دليل جيد يسند التعريف، وهو حياتي وحياة كل من عرفتهم، أو تخيلت وجودهم. فجميعنا نجونا. نجونا من شيء ما، نجونا مرات ومرات، وكلنا (على الأرجح كلنا) ندرك أن هناك واحدة صغيرة تنتظرنا في آخر الطريق هناك، وهذه الواحدة ستكون بمنجاة من قدرتنا على النجاة. 

ولولا تلك الواحدة ما كان لنجاتنا مما قبلها أي معنى، فكل مرة نصرخ فيها فرحين بنجاتنا، سترنُّ في مكان عميق ومظلم من ذواتنا ترجمة صادقة حقيقية تقول: هييييه. ليست هي، ليست هي.  

نعرف أنها تتربص بنا، وستتمكن منّا، ونفرح لأنها لم تفعل بعد، لا لأنها لم تفعل. 
أتخيل الأمر كمشهد سينمائي، تسير فيه مليارات البشر كالمنومين في طريق واحد ينتهي بالهاوية. الكاميرا ترصدهم من فوق، من طائرة الدرون التي تحملها، ثم تقترب من تفصيل يظهر فوق الصخور العالية على جانبي الطريق، تقترب أكثر لترصد أمازونيات يعزفن بأبواقهن السحرية موسيقى تقودنا إلى حتفنا. وبين الفينة والفينة تبرد همّتنا، تتكاسل أرجلنا، فتأتي ضربات طبل من بعيد في خلفية المشهد كأنها ضربات القدر، نتحفّز، فتعود الأمازونيات للعزف من جديد وتقول موسيقاهن: أيها الناجون إمضوا. ترصد كاميرا محمولة على كتف وجوهنا المبتهجة حين لم تقتلنا ضربات الطبل/القدر، ثم تعود الكاميرا العالية لترصد مشينا الحثيث من جديد بعد عودة الموسيقى السحرية، وتظهر الهاوية التي تنتظرنا، وقربها ضارب الطبل شريك الأمازونيات. 

كل ما تفعله ضربات القدر تلك، أنها تجدد حماسنا للسير نحو النهاية، وتضبط الإيقاع للعازفات، وتوهمنا أننا نجونا. 

ثم تعالوا لنتفق، ممَ ينجو الإنسان؟ من حرب؟ البشر منذ آلاف السنين يشعلون حرباً جديدة كل خمسة أشهر، ولم يموتوا كلهم. ولا حتى قتلوا كل أعدائهم. ولو كانت النجاة من حرب أمراً نادراً أو عظيماً، فما الذي يفعله هؤلاء المليارات الثمانية هنا؟ 

من وباء؟ كفاكم تشدقاً. الأوبئة برمجت نفسها أن تُبقي البعض منّا لتقتات عليه في غزوتها القادمة، وهي تعرف ـ سواء كانت فيروسات أو جراثيم ـ أنها ستفنى أيضاً إذا أفنتنا. تركتنا بمزاجها، ولا داعي للتفاخر. 

من بلاد؟ يحلو لكثير ممن غادروا بلادهم القاسية المتوحشة أن يطلقوا على أنفسهم لقب ناجين. لكنهم يعرفون، ونحن نعرف، أنهم سيحملونها ويحملون وحشيتها معهم إلى القبر. 

مِن سجن؟ مِن خوف؟ مِن طاغية؟ لا نجاة، هذه أشياء كالجدري، قد لا تقتل دائماً، لكنها ستترك ندوباً على الوجه تجعله كقمر العِلم لا كقمر الأغاني. 

مِن حب؟ هذه كذبة سخيفة، لا أحد ينجو مِن حب. 

مِن الجوع؟ كيف ذلك؟ أعيدوها عليّ. أتقصدون أن شخصاً جاع، ثم جاع، لكنّه لم يمت؟ هو لم يمت نعم، لكنه جاع، جاااااع. كيف يمكنكم تسميته ناجياً؟ 

من حادث سيارة؟ من غرق؟ من سقوط طائرة؟ من سرطان الغدد اللمفاوية؟ من آثار التدخين على الرئتين؟ من حريق مستودع؟ هذه ليست نجاة، هذا إعادة ترتيب للاحتمالات فقط. 
قبل عقدين أو أكثر قليلاً، شهد العالم المتحضر حملة تحولت إلى موضة عارمة، تريد أن تنقذ دب الباندا من الانقراض، امتلأ العالم بصور الدببة الخمس المتبقية، على القمصان القطنية وشاشات التلفاز، على القبعات، على أكياس الشييس وقرب قاعات البرلمانات، ونشرت وسائل الإعلام الكبرى أخباراً من قبيل: بشرى إلى العالم، الدب باندي يتقرّب من الدبة باوندينا وبدأ يغازلها. 

وهكذا، حتى خرج عالم بيولوجيا تطورية رصين ليقول للعالم: كفاكم جنوناً، ينقرض عشرون نوعاً من الأحياء كل أربع وعشرين ساعة، وهذا شأن الطبيعة منذ أربعمئة مليون سنة، دببة الباندا ليست استثناء، مثل أن نوعنا ليس استثناء، فنحن أيضاً سننقرض في وقت ما. 

بالنسبة إلي، حتى سن الثانية عشرة، كنت أظن كلمة نجاة في اللغة تعني فقط اسم زوجة عمي المحببة، وفوجئت حين عرفت بالصدفة أن لاسمها معنى آخر لم أفهمه تماماً، فحتى ذلك الوقت لم أكن أحتاج لمعرفة كلمة تؤدي هذا المعنى. فممَ سينجو فتىً يتقافز طيلة النهار على أشجار التوت؟ أو يلاحق العصافير بـ"نقيفات" لا تصيب، وفخاخ لم تنجح في مهمتها يوماً؟ أي سبب في حياة كهذه سيجعلك تقف في الباب وتفتح ذراعيك وتخبر الجالسين في الداخل بفخر وحبور: لقد نجوت. وسيضحكون منك: ممّ يا "خليَّ البال"؟ 

وسيكونون محقين، فلا أحد ينجو سوى القَلِق، سوى مَن سيهمس لنفسه ولو للحظة: هذه هي الصائبة؟؟؟ هي؟ هي؟ لا ليست هي. ثم يرفع صدره ويخفضه، ويطلق زفيراً طويلاً. من ذاك الذي صنعت له اللغة العربية اسماً عظيماً خاصاً يليق به: الصعداء.  

ففي النهاية أنا مثل الجميع، بدأت علاقتي الحقيقة بكلمة نجاة في اللحظة التي وعيت فيها أنني يوماً ما لن أنجو، مع فارق بسيط لصالحي، وهو أن لقاءاتي الأولى مع كلمة نجاة كانت على شكل امرأة ذكية ولطيفة وعطوف. أي كما تبدو للجميع تقريباً.   

كان أوسكار وايلد يظن أن خطيئة العالم الأصلية هي في أن الإنسان يأخذ نفسه بجدية. وربما تساعد هذه الجملة في فهم إعلائنا لشأن النجاة من حدث ما، وكأن نجاتنا من حدث ما تعني نجاتنا، أو كأن نجاتنا بحد ذاتها تعني شيئاً ما للحياة. 

كان صديقي الشاعر الراحل، إياد شاهين، يعتقد أن النجاة الوحيدة ذات المعنى هي النجاة من الحياة، وكان يقول كلما مات أحد: "مات. لم تنطلِ عليه الحياة"، وأنا يخطر لي أحياناً أن النجاة الوحيدة الجديرة بالاهتمام قليلاً، هي نجاة الإنسان من آثامه، تحرره من الذنب المعذِّب، وأظن سبب ذلك هو احتواء دمي على بعضٍ من جينات الآثم الأول، جدّنا قابيل. 

إذ لا بدّ أن قابيل شعر بألمٍ واضطراب عظيمَين بعد قتله لأخيه. لا بدّ أنه قضى يومين أو ثلاثة عاجزاً عن فعل شيء سوى النظر في الفراغ مذهولاً. لا بدّ أنه حين جاع كثيراً احتاج أن يضلل نفسه بجملةٍ ما كي يستطيع نقل الطعام لفمه باليد الآثمة نفسها. ولا بدّ أنها كانت جملة عظيمة كي تستمر الحياة. 

كلُّ ما كتبه البشر من أدب (وفن وفلسفة وصلوات) ليس سوى تلك الجملة.