"شوشانا": الحب الأصعب في زمن الانتداب البريطاني

محمد صبحي
الخميس   2024/07/25
مزيج من الإثارة السياسية والأكشن ودراما الحب
العام 1938، في تل أبيب المُشكّلة حديثاً، تواصل المهاجرة اليهودية شوشانا، ابنة مؤسس الحركة الصهيونية الاشتراكية بير بوروشوف، كصحافية، الحلم بالمدينة الفاضلة بدلاً من الفكرة الأبوية التي روّجت لها الصهيونية والمتمثلة بـ"الكيبوتسات"، الشكل الاستيطاني المصمّم للدفاع عن النفس وتكوين مجتمعات اشتراكية صغيرة في فلسطين إبان الانتداب البريطاني.

 

مع ذلك، يداهمها الحبّ (وإنكلترا) لتعطيل خططها: تلتقي الفتاة بالعميل توماس ويلكين (دوغلاس بوث)، نائب المشرف على فرقة مكافحة الإرهاب البريطانية. يجب على المحقق الشاب أن يواجه المتطرفين اليهود، بقيادة الشاعر الكاريزمي والثوري أبراهام شتيرن، فعبر هجمات وتفجيرات واغتيالات إرهابية في المدينة، يحاول المستوطنون الصهاينة السيطرة على فلسطين من دون تدخّل أجنبي، عبر القضاء على السكّان العرب أولاً ثم الميليشيات البريطانية.

قد يشعر المرء بالقلق من محاولة الفيلم تناول الكثير في لحظاته الأولى، حين يسرد تاريخ فلسطين الحزين في تسلسلٍ افتتاحي عبر توظيف الصوت العذب لشخصيته الرئيسة (إيرينا ستارشينباوم) لنقل إرث الاحتلال من الإمبراطورية العثمانية إلى الثلاثينيات حينما سيطر البريطانيون على البلاد، ثم مع تدفُّق المهاجرين اليهود في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية (مع بدايات المشروع الصهيوني الإحلالي) والتوترات الناشئة بين السكان العرب والوافدين الجدد؛ صار الأمر إلى مآلاته الحزينة والدموية التي نعرفها جميعاً. في ما بينهم، يتطوّر التنافس الفصائلي بين اليهود حول أفضل السبل للتعايش، حيث تبدأ الهاغاناه ذات العقلية الدفاعية في تسليح نفسها بهدوء بعد فترة طويلة من الأمل في إيجاد حلٍ سلمي بينما يبدأ نظراؤهم الأكثر تشدداً في منظمة الإرغون، العثور على مزيد من الدعم لمعتقدات ومنظمات كانت هامشية في السابق. يدور الصراع داخل عائلة شوشانا باعتبارها الابنة المحترمة لزعيمٍ صهيوني راحل اعتنق الهاغاناه، بينما ينجرف شقيقها أكثر نحو منظمة الإرغون.

وهكذا، من جديد، ينظر مايكل وينتربوتوم إلى فلسطين، مفترق الطرق وتشابك الحروب المعاصرة، ليتعامل هذه المرة مع أحلك صفحات الاستعمار البريطاني. في البداية كان الفيلم الوثائقي الذي شارك في إخراجه مع مايكل الصواف، "11 يوماً في مايو"، حول القصف الإسرائيلي الذي أدّى إلى مقتل 60 طفلاً في غزة في أيار/مايو 2021. والآن يختار النظر إلى الماضي، والعودة إلى التاريخ بقصية مثيرة تشويقية مع خلفية عاطفية للعب مع التاريخ، واستجواب الماضي الاستعماري، بقلقٍ ممزوج باليأس، حول الأسباب العميقة لصراع مرهق، الآن أكثر من أي وقت مضى، يستمر في حصد الضحايا الأبرياء.


يريد المخرج الإنكليزي (وهو أيضاً كاتب سيناريو ومنتج مشارك) نفض الغبار عن جذور الصراع الحالي، وفهم أسباب كل من الفلسطينيين واليهود، وإدانة التطرّف والظلم (كما حدث مع فيلم "قلب شجاع")، وإبراز الحب وسط الحرب والدمار، مشيداً مرة أخرى بالحياة التي تصرّ على الوجود رغم الخراب، على خلفية ذلك العقد المشؤوم الذي انتهى بقيام دولة الاحتلال الإسرائيلي العام 1948. والنتيجة فيلم نابض بالحياة وإيقاعي لكنه مشوّش قليلاً.

شوشانا، بنظرتها المختلفة وتواجدها في قلب صناعة الأخبار، تعرف كيف تطوّر موقفاً نقدياً تجاه ذاتها (ووطنها؟) والاستعمار الإنكليزي، ذلك الأخير الذي يمثّل سيطرةً مفترسة، غير قادرة في النهاية على الفهم الكامل للديناميكيات الاجتماعية والثقافية للإقليم. رمز ذلك النهج الاستعماري الغبي هو الضابط القاسي جيفري مورتون الذي يلعب دوره هاري ميلينغ، الأقل اهتماماً بحفظ السلام من تأكيد السلطة، وهي مهمة يعتقد أنها ستكون أسهل من خلال تخفيف القيود على الإرغون وزعيمها أبراهام شتيرن، ومراقبة الهاغاناه بشكل أكثر إحكاماً. والبقية متروكة للتاريخ لمعرفة مدى الكارثة التي شكّلها هذا القرار بالنسبة إلى مستقبل فلسطين.

تتحرك الدراما التاريخية مثل بندول بين الخيال الروائي والنشرات الإخبارية الاستعمارية (British Movietone News، Pathe Gazette وGaumont British News)، بين الدماء المسفوكة لقصة التجسّس، والحنان الهادئ للحبكة العاطفية. ومع ذلك، وبعيداً من الركيزة التاريخية، فإن قصة الحب المأسوية بين شخصين مختلفين، الرامزة لغياب الوئام والمصالحة في أرض ممزّقة، بين شوشانا المنيعة وتوم المطيع، هي ما تنتج أفضل لحظات الفيلم، الذي أفسده ربما الإفراط في التحكم الإخراجي، ما حجب الفروق الدقيقة العاطفية المختلفة التي يختزنها النصّ. بينما دوغلاس بوث –في بوليا الجنوبية التي تُظهرها كاميرا غايلز نوتغنز على أنها فلسطين–  يؤكد القدرة، ومن دون مبالغة، على اللعب بقناع الرجل الوسيم. لكن ما يستحق التقدير هو حدّة وفعالية إيرينا ستارشنباوم، بمهارتها في تجسيد وتظهير الفروق الدقيقة الداخلية، ومتاعب وقناعات الناشطة النسوية المقاتلة، التي، من دون إنكار قناعاتها السياسية، سلحّت نفسها من أجل مَثل أعلى نفته بحبها، على حساب تمزّقات هائلة بين رغبات وهويّات ومصالح.

وهكذا، بالرغم من نواياه النبيلة في تسليط الضوء على تاريخ مُهمَل واستكشاف توترات سياسية تاريخية معقدة، إلا أن تنفيذ "شوشانا" غير المتكافئ يعيق فعاليته كدراما تاريخية شاملة أو فيلم رومانسي مثير. فسرعة السرد يعوزها التساوي والتدفق المنضبط، مثلما تأتي الكيمياء الرومانسية باهتة بين الخيوط، فضلاً عن عدم الدقة التاريخية والتبسيط والافتقار إلى العمق في تمثيل وجهات النظر الفلسطينية. مع ذلك، فأجواؤه المفعمة بالحيوية وعدسته المعقّدة بشكل منعش يجعلانه نقطة انطلاق، معيبة لكن كافية، لفتح نقاش حول برميل البارود الاجتماعي والسياسي في فلسطين في فترة ما بين الحربين العالميتين.